الطريق .. من رواية “الفيشاوي” لـ غادة العبسي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

غادة العبسي 

يحسبون الطرقات خرساء، يحسبونها لا تحكي، رُبّ سُبُلٍ فاضت بأحاديث لم يروِها بشر، وكم من بوحٍ أُريق على قارعة الطريق. الأرض ترعاك أيها الإنسان، الأم السمراء تستمع إلى وجودك.

ليس هناك أبلغ من قصة حذاء صُنع على مهلٍ في ورشة إسكافيٍّ ماهر من توسكانا، يمسك الجلد بيد وقلبه بيد، كل تجعيدة في وجهه مَعلَم فلورنسي فريد، مقوّس الصدر في منتصفه، حفرت كعوب الأحذية فيه ممراً يتحسّسه بأنامله المصبوغة بالورنيش وهو يشاهد نهر "أرنو" عن بعد ويبتسم، جسوره القديمة ذكرياته. صار هذا الحذاء الآن في قدميّ هذا الشاب المصرى النحيل،ولا يعرف أنه اكتسب تجاعيد وجهِ صانعه، فلم يعد الزوج التوسكاني الجديد اللامع ذاته،انبرت حوافه واكتسبت استدارة من كثرة السير، وهبطت بطانته السوداء تحت قدميه وفي طريقها إلى التآكل. أوشك لُبّ النعل على التحرّر، فبرز كلسانِ طفلٍ حديث العهد بالكلام.تلك الألسُن تدريجياً تقصّ كل شيء، ألسن النعال المنهكة القديمة تخبر الطرقات بكل الحكايات.

 

على أرض المعهد، تدبّ نعال مصرية مغروزةٌ في أجسادها مساميرُ صدئة من طول الانتظار، تزاحمها أخرى بجلودٍ إنجليزية وبحياكةٍ ألمانية أو غُرَزٍ بولونية. كعب أرمنلي رفيع يفتك بقلوبٍ يسري نبضُها حتى مواطئ الأقدام، وآخر يوناني تميل لدبيبه الرقيق الآذانُ… عالمٌ ملوّنٌ غضّ الأحلام.

يُحدّثني النعل التوسكاني بحكاية طه، الطالب بالمعهد العالي الفني، يشكو إليّ قسوتَه عليه، فلم يكتفِ بالسير به ذهاباً وإياباً كلَّ يوم من عزبة بلال إلى المعهد بشارع شبرا، بل يواظب كذلك على المشي حتى أقرب محطة أتوبيس توصله إلى “المنيل”، هناك يقوم بالجلوس أكثر من ثلاث ساعات مرتين أسبوعياً فوق بساطٍ أحمر قانٍ بأليافٍ ناعمة، يشجّع الحذاء على النوم فينال قسطاً من الراحة فى منزل “الست لواحظ”، والدة لتلميذين في المرحلة الإعدادية يساعدهما طه على الاستذكار، وكان قد قام من قبل بعمل بعض ديكورات بصحبة د.عدلي في نفس البيت فطلبت السيدة ذلك منه فوافق لفوره.

يحتكّ حذاء الشاب النحيل بحذاءٍ ورديٍّ مرةً أسبوعياً بالقرب من مشتل يطلّ على ترعة الإسماعيلية، ذاك حذاء لبنى حبيبة طه، إذ يبثّها لواعج الهوى، ويبوح لها بأفراحه وأتراحه، يكرّر على مسامعها تلك العبارة فكثيراً ما تبكي: “لو أنني لم أمرض!”، وسرعان ما يحكي لها كيف يحقّق الطالب المصري النحيل تفوقاً ملحوظاً على أقرانه من المصريين والأجانب في المعهد، وكيف يتوقّع أساتذته له نجاحاً مبهراً، يقصّ عليها تهافت الفتيات عليه كي يرسمَهنّ بعدما رأينَ صورة “إيـﭬا الأرمنية مرسومةً في دفتر المحاضرات بقلم فحم، فتغضب ويصالحها بضمّةٍ طويلة وقبلةٍ على يدها.

ستة أشهر قضاها طه في هذا المعهد، يستذكر ويعمل ويحب ويرسم، ويواصل المسير، حتى وصل كعادته إلى بيت الست لواحظ، وقبل أن يصعد وجد الشرطة تحاصر المنزل ويتحدث الجيران عن ضبط بيت مشبوه بالداخل. لم أستطع إخبار طه بأنّ الست لواحظ، قبل دقائق فقط من وصوله، كانت تسير حافيةً فوقي بصحبة فتيات أخريات شبه عراة يبكين، تقودهن أحذية العساكر الثقيلة الخشنة. تجمّد الحذاء التوسكاني في مكانه، وبعد لحظاتٍ انصرف مع صاحبه ولم يعد مرةً أخرى. لم يكن يدري أين يذهب وكيف ستستمر حياته بعد انقطاع هذا الرزق عنه خاصةً بعد مرض د.عدلي وتوقفه عن العمل، يمسك دفتر المحاضرات بكلتا يديه، يحتضنه باكياً لا يسمع نشيجه سوى النيل والقمر وأنا.

لم يكن صاحب حذاء توسكانا من يبكي وحده، ملايين الخطى في صبيحة اليوم التالي كانت تبكي، جموع لم تشهد تلك الأرض مثلها من قبل، من جنوبها إلى شمالها، تماهت الطرقات مع بعضها البعض، كسرَت الخُطى المتهافتة كلّ الحدود في طريقها إلى وِجهةٍ واحدة،حتى ذلك الجسد الساكن الواقف على الطمي حافي القدمين أوقف دابّتَه التي تدور واحتضنها باكياً، كان قلبه يتوجّه نحو الوِجهة ذاتها: جثمان ناصر.

للطريق قلبٌ حجريٌّ أسود يكاد ينصهر حزناً على آدم وبنيه أبد الدهر، له قلبٌ لا يحتمل وداع الصحبة والأحبة، يراقب مِن خطوات أحدهم المتثاقلة كيف امتطته المحن والخطوب، ذلك لأن للمصائب أرجلٌ عديدة كالعناكب والخنافس، ولكنها هشّة تنكسر مفاصُلها بسهولة، وتفقد أطرافَها فتقع. هذا الأسفلت معجونٌ بجثثها المنقوصة وأطرافها المبتورة وتفوح من مسامه رائحة هزيمتها الكريهة.

مرّت ليالٍ لا تُنسى على صاحب حذاء توسكانا، تكرّر ذهابه إلى أرضٍ غير معتادة، بسياجٍ عالٍ حولها، حتى وجدتُ الحذاء المنهك في يومٍ ما يطير إلى أعلى فرحاً بصحبة حذاء من “باتا” يرتديه زكريا صديق طه. تبع هذا الحادث أيام يسعى فيها خفّان من البلاستيك من العزبة إلى أشمغة ترتديه نبيات، والدة طه، تسير مُسرعةً وكأنها تريد الإمساك بشيء قبل أن يختفي، ثم تعود بدبيبٍ زاحفٍ يجرّ خيبةً ما، إلى أن أتى ذِكر “زينهم معارك” وهرولت نبيّات في الخفّ الأسود إلى البيت ومعها مبلغ ٢۱ جنيه. صاحت في طه أنها حصلت على المصاريف المطلوبة، طار خُفّا نبيات إلى أعلى بقدميها المتشققتين إذ حملها ابنها محتضناً إياها ودار بها دورةً كاملة، أحاط إخوته بهما فرحين وبدأ يوسف في السير بخطوات منتظمة مثل الجنود والجميع يضحك.

أنتم تضحكون يا بني آدم ثم تبكون، سمْتُ حياتكم القطع بعد الوصال، والوصول بعد طول المسير، ولكن هذا الشاب يشعر بالضياع، الطريق يمكنه قراءة الحيرة من الخطوات. فبعد ساعات بين جلوسٍ ووقوف مع أصدقائه بالمعهد لمرةٍ أخيرة، يودعهم بأسى ويهديهم محاضراته المنقولة وبعض لوحاته ويهجر تلك الأرض الملونة إلى أرضٍ أخرى لم يرها بعد. يبحث طوال الوقت عن صاحبة الحذاء الورديّ، يرفع رأسه إلى أعلى فيجدها في انتظاره كعادتها خلف النافذة،فيقرر الصعود إلى شقتها. تفتح له الباب فتقرأ في عينيه الزرقاوين الرحيل. دفنت لبنى رأسها الصغير في صدر طه، احتضنها واستسلم لقداسة تلك اللحظة. يقول الطريق إن البقعة التي تضم حبيبين خُلقا من نفسٍ واحدة تشعّ نوراً يضيئه، مثلما أضاء الحب جوانحَهما. قال الطريق أيضاً إن الحبيب ليس بأعمى وإنما هو بصير. لا يمكن لأحد أن يفهم سر صمت والدة لبنى عندما شاهدتهما متوحدين في ضمّةٍ طويلة، ولا التكهّن بما سوف يحدث بعد دقائق إذا وصل أخوها ورآهما… اللحظة أسمى من كل خوفٍ وظنّ.

كيف ستبلّغ الحذاء الورديّ أيها التوسكاني أنك لن تذهب إلى أرضٍ بعيدة فحسب وأنك لن تُحرم من رؤيتها وحديثها فقط؟ كيف ستخبرها أنك ستركب طائرةً مع الدفعة الجديدة وتحلّق إلى السودان لتبدأ حياتك العسكرية هناك؟

كيف يودّع أبناؤك أيتها الأرض بعضهم بعضاً؟ كيف للأم أن تلد جنينها وتفطمَ رضيعها وتتركه يمضي وحيداً؟ كيف ستفعل ذلك نبيّات؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روائية مصرية 

مقالات من نفس القسم