في الحادية والثلاثين من عمره، كتب «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية» الشرايين النازفة للقارة، سيرة نهبها وتاريخها المقهور. هذا الكتاب الذي استحال إلى أيقونة، قال غاليانو منذ عام في معرض كتاب برازيليا إنه لن يكون قادراً على قراءته من جديد، فعندما كتبه لم يكن يعرف الكثير في السياسة والاقتصاد. كان كتاب «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية» من الكتب التي حرصتُ على حملها من مصر إلى إسبانيا حينما توجهت للحياة هناك. الكتاب المخيف والقيّم لإدواردو غاليانو، المنقول إلى عشرات اللغات، قام بترجمته أحمد حسان وبشير السباعي بعد عشرين سنة من صدوره عام 1971. في عام 2009 سيقوم رئيس فنزويلا الراحل هوغو تشافيز بإهداء الكتاب إلى باراك أوباما في قمة الأميركيتين في رسالة واضحة بالطبع لم يفهمها أوباما في وقتها. ترجم أحمد حسان بعد ذلك قسماً من ثلاثية «ذاكرة النار» بعنوان «الأصوات الأولى» وترجم الثلاثية كاملة أسامة إسبر. أما صالح علماني فقد ترجم الكثير من العناوين أذكر منها: «كرة القدم في الشمس والظل»، و”أبناء الأيام»، و»أفواه الزمن»، و”مرايا”
كان غاليانو إذن حاضراً ومقروءاً لدينا منذ ما يقرب من ربع قرن. هو الذي تنقل في المنافي بين إسبانيا والأرجنتين، لكنه، فيما نعلم، أبداً لم يزُر أي بلد عربي. بل لم يكن يعرف أنه يُقرأ ويُترجم على نطاق ليس بالضيق أبداً في هذا العالم، الأقرب إليه بأكثر مما كان يمكنه تخيله، وهو الذي كتب مقالته الشهيرة عن غزة عام 2012 كما كتب قبلها عن بغداد عام 2003، ويذكر في مقطع من المقالة غونتر غراس الذي رحل هو الآخر قبل ساعات من رحيل غاليانو: “لم أكن حتى قادراً على الاستماع إلى النصيحة الحنون من غونتر غراس. الكاتب الألماني، الذي يتفهم أن بوش في حاجة إلى إظهار شيءٍ كبير جداً أمام والده، نصح بوش بالذهاب إلى طبيب نفسي بدلاً من قصف العراق”
ربما كان كذلك عام 2004، حينما زار إدواردو غاليانو البلدة الصغيرة التي كنت أقطن فيها مع زوجتي السابقة في شرق إسبانيا. كانوا قد رتبوا له محاضرة ولقاءً مفتوحاً مع الجمهور في الهواء الطلق، وكان الحضور كثيفاً والرجل متألقاً يمضي من موضوع إلى آخر بكل سلاسة. حملت «الشرايين المفتوحة» معي وتوجهت صحبة زوجتي إلى المحاضرة، في نهاية اللقاء كنت أقدم رجلا وأؤخّر أخرى وأشعر بخجل شديد من أن أتحدث إلى الرجل هكذا، وكانت هي تدفعني فعلياً في ظهري، حتى انتهزت الفرصة بعد توقيعه لأحد الأشخاص واقتربت منه وفي يدي «الشرايين المفتوحة» في نسختها العربية. قلت له على الفور: إنني شاعر ومترجم مصري وقد ترجمت لك بعض القصص القصيرة وإن هذا الكتاب الذي أحمله في يدي هو النسخة العربية من «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية». بدا في تلك اللحظة أن الخجل كان يعتريه هو بل إن وجهه احمرّ وارتبك نوعاً ما وقال لي: أأنا مُتَرجَم إلى العربية!؟ لم أكن أعرف، لم أكن أعرف. قلت له إن اثنين من كبار المترجمين قاما بترجمة هذا الكتاب وهما في الآن ذاته يساريّان مثلك ومن جيلك أيضاً. أخذ الرجل الكتاب، تطلع فيه لبرهة ثم أعاده لي وشكرني وتمنى لي حظاً سعيداً وانصرفت. ندمتُ بعد ذلك أنني لم أترك له النسخة العربية، لكنه بدوره ربما خجل أن يطلبها.
في لحظة رحيل غاليانو، يمكننا أن نتذكر قصصاً ومقاطع عديدة له. هذا واحدٌ منها:
عصافير ممنوعة
في عام 1976 في سجن يدعى “حرية”
السجناء السياسيون لا يمكنهم الحديث دون إذن، ولا يستطيعون الصفير ولا الابتسام ولا الغناء ولا التمشّي سريعاً ولا أن يُحيوا بعضهم بعضاً. كذلك لا يمكنهم الرسم ولا استلام رسوم لنسوة حوامل ولا لزوجين ولا لفراشات ولا لنجوم ولا لعصافير.
ديداسكو بيريث، معلم في مدرسة، محكوم عليه بالسجن والتعذيب لاعتناقه “أفكاراً إيديولوجية”. يستقبل يوم أحد زيارة ابنته ميلالي، ذات الخمسة الأعوام، الابنة تُحضر له رسماً لعصافير.
الرّقباء يمزقونه على باب السجن.
الأحد التالي تُحضر له ميلالي رسماً لأشجار، الأشجار غير ممنوعة والرسم يعبر.
يُثني ديداسكو على عملها ويسألها عن الدوائر الصغيرة الملونة التي تظهر على قمم الأشجار، دوائر صغيرة كثيرة بين الأغصان: أهذه برتقالات؟ أية فاكهة تكون؟
الطفلة تشير له أن يصمت:
– ششششش.
وفي السر تشرح له:
– أبله، ألا ترى أنها أعين؟ أعينُ العصافير التي جلبتُها لك في الخفاء.