الفقرة السابقة من قصة كاريزما، من بين 13 قصة صغيرة للغاية، تكوّن مجموعة (عبد الفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل)، للكاتب العماني سليمان المعمري، الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت، عام 2009، وكتبت نصوصها ما بين عامي 2005 و 2008، وهي المجموعة القصصية الثالثة لكاتبها، الذي نال جائزة يوسف إدريس للقصة العربية عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر عام 2005 عن مجموعته: (الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة)، كما صدرت له كتب أخرى ما بين الرواية والحوارات والمقالات.
وكما يظهر في المقتطف الذي بدأنا به، تلعب لغة القصص بمفردات ذات صبغة بلاغية وماضٍ شعري أنيق لتوجهها نحو التهكم والمزاح والسخرية، وهو ما يتكرر في أغلب قصص هذا الكتاب الذي يدور بالأساس حول عبد الفتاح المنغلق الذي لا يشبه أحداً وقد يشبهنا جميعاً مع هذا في حركة المترددة أمام العالم من حوله، حيث ينفتح وينغلق في رقصة مضطربة نضطر إليها جميعاً، وحيث يغرق في التفاصيل – أحبها أم لا – أو يتعالى عليها وفقاً لطبيعة اللحظة والظروف والأهواء.
يظهر عبد الفتاح المنغلق في أغلب قصص المجموعة باسمه محدداً وواضحاً، فكأننا أمام كتاب قصصي يكمل بعضه بعضاً، أو متتالية قصصية تشترك في شخصيتها الرئيسية كخيط أساسي وحيد، دون أن تتراسل بما يكفي بينها لتشكل حكاية موحدة لها رأس وذيل. ثم إن عبد الفتاح قد يكون مروياً عنه، من قبل راوي عليم، وقد يمسك بزمام السرد راوياً بنفسه وبصوته ما يشاء، دون حاجة إلى تصريح واضح بذلك، ودون أن تختلف نبرة السرد كثيراً ما بين الراوي العليم وصوت الشخصية، فكلاهما لعوب وحر، يطارد المفارقة على مستوى اللغة والواقع على السواء، تنهبه التفاصيل وتسر فؤاده الفكرة الحلوة وراء أحداث كل قصة.
لم تهيمن خفة الظل والطرافة على جميع قصص الكتاب، انفلتت هنا أو هناك بعض مسحات الأشجان والأسى، على سبيل المثال في قصة (جدي والعريش)، أقرب قصص المجموعة من التراث العماني التقليدي، وأقلّها من حيث جرعة السخرية والتهكم واللعب. عدا تلك القصة الوحيدة، كانت بقية القصص مخلصة لمبدأ اللعب والظرف والاندياح الحر.
القصص صغيرة الحجم للغاية، لا يبلغ الكتاب ستين صفحة من القطع المتوسط، أغلبها يختطف لحظة مفارقة بعينها، يترصد فيها لعبد الفتاح المنغلق، الذي قد يعيد اسمه للأذهان اسم (سعيد أبو النحس المتشائل) عند إيميل حبيبي، ويراقب السرد انفعالات وأفكار عبد الفتاح وتردده كالبندول ما بين الانفتاح على الواقع والآخرين والتفاصيل وانغلاقه على نفسه وعزلته ووحشته، دون تباكٍ أو مبالغة وإفراط، بل على العكس، بخفة تمر مر الكرام، خفة قد تزيد عن الحد اللازم في بعض الأحيان (دون أن أعلم مطمئناً ما هو هذا الحد اللازم).
تبدأ قصص الكتاب بقصة “امباااع”، حيث نرى عبد الفتاح الشاب عاجزاً عن ذبح شاة، المرة تلو الأخرى، حتى يستدعي عجزه هذا عواقب ذات شأن، تصل حد استحالة ارتباطه بالفتاة التي يحبها، إلى أن يتجاوز رقه قلبه ورحمته ويذبح شاة باكياً عليها، وتنتهي بقصة “العزاء”، حيث يدخل عبد الفتاح إلى عزاء ميتٍ يجهله، فقط ليلعب مع الطقوس ويشاكس العجائز الآتين للاحتفال بأن الموت أخطأهم هذه المرة. في القصة الأولى يفرض العالم على عبد الفتاح أن يكون قاتلاً – ولو لشاة – حتى يندمج في مجتمعه ويصير عضواً مقبولاً فيه، وفي القصة الأخيرة يهزأ عبد الفتاح من طقوس العزاء الجليلة عند مروره بالصدفة على جامع في غير وقت الصلاة. لا دمعة هنا تسقط على الشاة الذبيحة، بل رضا داخلي وابتسامة ماكرة يواجه بها أسئلة الشيوخ المحفوظة والشعائرية ورغبتهم المستميتة في دس أنوفهم بداخله والتعرّف عليه. ما بين طقس الذبح في القصة الأولى والتلاعب مع طقوس العزاء في الأخيرة، ثمة تجليات ووجوه كثيرة لعبد الفتاح المنغلق، ليست كلها على الدرجة ذاتها من طزاجة الفكرة وسلاسة الأسلوب، ومع ذلك فالكتاب ككل يقدم تجربة قراءة سهلة، بوعد ضمني أن الابتسامة لن تختفي من شفة القارئ إلا لتعود بعد قليل، ابتسامة مرجعها رؤيتنا لأنفسنا وتمزقنا وارتباكنا في مرآة عبد الفتاح المنغلق.