ثمَّة شُعراء، يقرأون الرواية بصورة كبيرة، وبنوع من الشَّغَف والرَّغْبَة المُلِحَّيْن. وثمَّة شُعراء لا يقرأون الرواية، أو إنَّها تخضع عندهُم لنوع من الاختيار الصَّارم. وثمَّةَ شُعراء يفتحون نوافذهم على كل الرِّياح. على الشِّعر، كما على الفكر، وعلى مختلف حقول المعرفة والإبداع، لأنَّهُم لا يعتبرون الشِّعر كلاماً ينزل، مثل الوحي، من السَّماء. وهذا ما أذْهَبُ إليه، شخصياً، باعتباري واحداً ممن لا يُؤمِنُون بانحسار المعرفة في أرْضٍ دون أخرى، أو أنَّ الشَّاعر ينبغي أن يكتفي براية القبيلة، لا نوافذ في بَيْتِه، سوى نافذة الشِّعر، ورُبَّما ليس كل الشِّعر، الذي هو، في ذاته، نوافذ في قَلْبِ نفس النَّافذة.
ـ ماذا لا يقرأ الشَّاعر؟
هذا هو السُّؤال الذي أفَكِّر فيه. فالشَّاعر لم يَعُد هو نفسُه، يكتفي بظاهِر المعرفة، أو يدَّعِي أنَّه غير مَعْنِيّ بالفكر، أو بالتاريخ والسوسيولوجيا والأنتربولوجيا، ومناهج النقد، ناهيكَ عن الفنون البصرية، والسَّفَر، بما يُتِيحُه من اختبارٍ لقدرة العَيْن على التقاط التفاصيل الصغيرة، وعلى التَّرَحُّل والتَّيْه، بلا حُدود ولا ضفاف، وأيضاً اللِّقاء والحوار، ومعرفة لغاتِ الآخرين، وما تحْفَل به من إيقاعاتٍ وأصواتٍ وألوان.
فالشَّاعر، هو من يَسْتَنْفِر كُلّ حواسِه، ويجعلُها يَقِظَةً، مُتَأَهِّبَةً لالتقاط كل شيء، واخْتِزانِه في قيعانها العميقة التي لاتفتأ، في لحظة ما، تخرج من بين الأصابع، وكأنَّها ماء يخرج من صَخْرٍ أصَمّ، صَلْبٍ، أو هكذا كان يبدو، قبل أن تَفِدَ عليه هذه التَّخْييلات التي هي حاصِل كل هذا الذي يَمُرُّ على نفس الشَّاعر، وعلى عقلة وخياله، أو ما يَسْتَدْعيه من تَهَيُّؤَاتٍ، هي في جوهرها، ما قرأه الشَّاعر، وما سمعه، وما رآه، وما أحسَّ به، أو ما عاشَه من تجارب، ومن احْتِقاناتٍ.
لا كِتابَ للشَّاعر، فكُلّ الكُتُب، هي كتاب الشَّاعرِ، ولا حاسَّةَ للشَّاعر، فكُلّ الحَواسّ هي حواس الشَّاعر، بما فيها تلك الحاسَّة التي تَسْتَنْفِر الرُّؤْيَة، وتنهض بالنَّفْس من كَسَلِها، ومن عاداتِ اليومِيّ والمألوف، ومن استعادة المَقْرُوء، أو تكراره بسذاجة، وبسطحيةٍ، أو بتقليد فاقِدٍ للنَّظر، ولبصيرة الشَّاعر المُبْدِع، الذي يُعِيدُ كتابة الوجود، ويبتكر أُفُقَه الشِّعْرِيَّ الذي لا يطمئن للمعيار، أو يُقِيم في نفس الكتابة، بنفس اللغة، وبنفس الشَّكل، أو بما هو أخْطَر وأجَلّ، أعني بنفس الخيالات التي لا إضافَةَ فيها، على الإطلاق.
فالشَّاعِرُ، هو الشَّاعِر، لأنَّه يعرفُ كيف يُذَوِّب هذه الأشياء، أو يَصْهَرُها، ليصنع منها خيمياء نَصٍّ، أو عَمَلٍ، فيه تصبح النَّفْس سائِلَةً، لا مَاءَ يُشْبِهُ ماءَها، لأَنَّها هي نفْس الشَّاعر، وليست نفس غيره ممن دَخَلُوا الشِّعر من غير مَضَايِقِه.