ثاني سمة، هي الظلّ، ظلّها لا يتبعها، بل يتّجه حرًّا عكس حركتها، ويتشوّه بين الضخامة والضآلة والانبعاج تبعًا لحالتها النفسيّة، وقد يصنع الظلّ إشارات وتهويمات وحركات تكون أحيانًا مناقضة لحركتها الأصلية. والسمة الثالثة، هي عدم النوم، وانقطاعه التامّ عنها منذُ أن اكتسبت السمتينِ السابقتينِ.
تراعي مدام نانا بروتوكولات اللّياقة والذوق إلى أقصى حدٍّ ممكن، وإن كان هذا يتطلّب منها مجهودًا خارقًا، فهي على سبيل المثال تكتفي بالابتسام الرقيق في وجود أحد، لأنّها لو تركت العِنان مثلًا للضحك على حديث ما، حينئذٍ لا تستطيع ضبط ضحكتها، إذ يتدافع منها الضحك ويتطاول سائبًا سائلًا من غير كابح، فتبدو عندئذٍ مخيفة جدًّا، ولهذا لا تغامر مدام نانا في وجود أحد بالضحك، ويجعلها هذا الكبح المستمرّ لا ترى الناس إلا في مناسبات نادرة جدًّا.
من وسائل دفاعها أيضًا ضدّ الضحك في وجود إحدى السيدات ـ أن تنتظر لحظة التفات السيدة ـ طالما صعب على السيدة النظر طويلًا إلى العينين الثابتتين ـ إلى شيء عارض، لتسدّد لها نظرة حاقدة مرعبة تحتقن لها الشعيرات الدموية في بياض عينيها الذي يعتكر لونه كماء كثرت فيه نسبة الكلور. آه لو نظرت السيدة إلى مدام نانا في تلك اللّحظة. كانت السيدة تتابع بنظرتها الخاطفة ـ التي لم تدم إلّا لحظات، وكانت هذه اللحظات كافية لانقلاب عيني مدام نانا مثل البحر الهائج ـ طفلها الصغير الذي يلهو بعيدًا في عمق الردهة، وقد جذبته مرآة رأى نفسه فيها ممطوطًا مستطيلًا، وظِلّ مدام نانا يعزم عليه خلسة بطلسمات غامضة وإشارات تتضخّم على الحائط، والطفل غير مدركٍ بعدُ خطر الظلّ، ومدام نانا تبذل مجهودًا مضينًا للسيطرة على ظلّها.
بعد زيارات استثنائية من هذا النوع ـ تصاب مدام نانا بصداع شديد، فتنطلق مسرعة إلى غرفتها، ثم تتخفّف من ملابسها، وتطلق العِنان لضحكتها الرهيبة التي لو سمعها أحدٌ لأقرّ بجنون مدام نانا. الضحكة السائبة السائلة تتصاعد تتدافع وتتطاول إلى مالا نهاية، كأنّ هناك مَرَدَة في عمق أعماق مدام نانا، أفرج عنهم بنزع الختم السليماني المرصّص على قماقمهم الضيّقة الخانقة. كانت المرآة في تلك اللحظات تعبث مع صاحبتها وتتلهّى لتهدئة سورة غضبها العارمة، فبينما كانت مدام نانا تنزع عنها آخر قطعة من ملابسها، كانت المرآة تتلكأ بديسنكرونية عند القطعة الأولى.
جورج هو زوج مدام نانا، وهو يمارس الفنَّ التشكيلي الكلاسيكي، يقترب من الخمسينيات، وله ملامح زوجته الحبيبة نفسها، إذ يشبهها إلى حدٍّ كبير. الوجه الطويل نفسه، وعمق العينين نفسه، وثبات النظرة. يمتلك الزوج كلبًا من نوع الدوبرمان، وهنالك شيء طريف بين الكلب وصاحبه، شيء مشترك، هذا العرج الخفيف في الساق اليمنى الذي يجعل مؤخرة الكلب أثناء سيره ـ ترتفع قليلًا في الهواء بطريقة غريبة، وتكاد تكون مضحكة، وكذا جورج الذي يعرج بالساق اليمنى نفسها، ويرفع مؤخّرته أثناء سيره في الهواء. من يرَ الكلب وصاحبه في الصباح الباكر حيث يكون الشارع هادئًا، فسيفكرُ ويقول كيف تزامن العرج في الكلب وصاحبه؟ أليس الصواب أنّ الحب الشديد بينهما هو الذي جعل العاهة تفاحة غضّة يقتسمها حبيبانِ.
فقد تكون العاهة في ساق جورج من أثر حادث قديم، ولأن جورج يحبّ كلبه الدوبرمان كثيرًا، فقد أقدم على فعل أحزنه كثيرًا، وهو أنّه صنع بنفسه عاهة كلبه الحبيب في ساقه اليمنى، إذ جاء بآلة ثقيلة، وقام بكسر ساقه اليمنى. صرخة توني صرخة مسعورة إثر ارتطام الآلة الثقيلة بساقه، فطلب جورج بيطريًّا، قام بصنع جُبيرة لساق توني، وقال ستبقى الجبيرة مدّةً من الزمن. قسّم جورج هذه المُدّة الزمنية على اثنين، واستدعى بيطريًّا آخر، وأمره بفكّ جُبيرة توني الحبيب، ففعل البيطري ذلك، فدامت عاهة توني أبدية كما دامت عاهة صاحبه.
رفع جورج تهمة فكّ الجُبيرة في نصف المدّة الزمنية المحدّدة لها ـ ضدّ البيطري الثاني ـ إلى المحكمة، فحكمت المحكمة بسحب رخصة العيادة منه لكونه تسبّب في عاهة مستديمة لكلب مرخّص. قرأ البيطري الأول الحادثة في صحيفة يسارية تتندّر برفاهية الواقعة. وكان البيطري الأول على شيء من الثقافة، فكتب تعليقًا، وبعثه إلى الصحيفة اليسارية. وكان مفاد التعليق أنّ هناك مُخرِجًا اسمه كلود ليلوش. هذا المخرج أخرج فيلمًا قديمًا بعنوان رجل وأمرأة. وهنالك مشهدٌ مشهورٌ في الفيلم لجسر خشبيّ يضرب في البحر إلى حين، وعلى هذا الجسر نرى من بعيدٍ كلبًا وصاحبه وهما يظلعان في مشيتهما، ويغمزان الغمزة نفسها، ويتقدّمان الجسر إلى نهايته المفتوحة على البحر، ولا نعلم بُغيتهما. بعد هذا الاستشهاد، قصّ البيطري الأول قصّة الجُبيرة، واتّهم جورج بالوحشية والجنون، وعدوى الواقع بالفنّ، ليبرئ ساحة زميله، لكن، مع الأسف، أخذ التعليق مأخذ الطرافة، ولم يتحرّك أحد.
ضحك جورج وزوجته نانا على التعليق بينما كان توني يسبح في نسيج سجادة شيرازي، وينعم بملمسها أمامهما. انتهى جورج من لوحته الكلاسيكية الجدارية التي اختارت موضوعها زوجته نانا توءم روحه وجسده، رسمها بدقّة متناهية. كانت حيرة جورج أمام رواية دون كيخوته شديدة. إنه يريد أن يستلهم اللوحة من مغامرات دون كيخوته، لكنّه لا يعرف كيف. وكانت نانا عندما تفكّر، تضطرب ظلالُها العديدة على الجدران، وتتجوّل في أنحاء البيت الكبير المكوّن من طابقينِ يتّصلان بسُلّم خشبيّ عريق يئزّ تحت خطوات الزوجينِ الحائرة. كانت الفكرة الشريرة التي داعبت رأس نانا هى: لماذا لا ينال جورج من دون كيخوته بطريقة غير تقليدية؟. سأل جورج: كيف؟ فقالت له: لماذا لا تقوم بتصوير مشهد تعميد دون كيخوته فارسًا نبيلًا؟.
صرخ جورج، وقال: إنه مشهد قاسٍ جدًّا، ولم يفكّر أحد من قبلُ في معالجته. إنّه إهانة دون كيخوته الكبرى التي يصمت الجميع أمامها، فقالت له: وهذا هو السبب الوجيه المحفز على تصوير هذا المشهد الرائع. دون كيخوته فارس الخيبات والآمال يعمد في ساحة كنيسة بالضرب على قفاه مرّات متتالية ـ لعطلٍ ما أصاب جرن المعمودية، ومن الذي يقوم بتعميده؟ إنّه القسّ اللئيم الساخر من سذاجته.
اللوحة كانت هكذا: ساحة دائرية على الطراز الروماني، ذات بلاط كبير مربع تقسيماته ظاهرة، وغائرة قليلًا في بعض النواحى، والوقت ليل، والسماء غائمة بسحبٍ بياضُها خفيف يميل إلى الزُّرقة، والقَسّ لا يتوقّع زيارة، وجرن المعمودية نفذ ماؤه كنذيرِ شؤمٍ على جحود البشر. في هذا الوقت يأتي دون كيخوته، وقد لكزه الشيب في فوديه، على بغلة تشبه الحصان، وعلى كتفه رمحٌ بائس. يأتي نحيف العود مشبعًا بكلّ قصص الفروسية التي قرأها. يحلم بمغامراتٍ يخرج منها نبيلًا، وتسمع عنها محبوبته المتوهّمة التي نذر لها قلبُه دون أن يعرفها. إنّها هناك في منطقة بين الحُلم والحقيقة. تنتظر منه دائمًا فعلًا نبيلًا خارقًا، وبشكلٍ ساحرٍ سيشبع هذا الفعل رغبته فيها، وقد يعافها تمامًا لمجرد التفكير في رغبتها فيه. يطلب دون كيخوته من القسّ الغارق في بيوريتانيته الحاقدة ـ أن يعمّد فارسًا نبيلًا، فستعيض القس الشرير عن جرن المعمودية بشيء آخر. أليس هو القسّ. إذن فيَدُه مباركة.
يركع دون كيخوته النحيل على قدميه، ويميل برأسه إلى أسفل بينما هناك خادمتانِ تتلصّصان وتتكتّمان الضحكات على الفارس العجوز البائس ـ في كوّة علوية بمبنى الكنيسة. ثم تهبط اليدُ المباركة الثقيلة بنعمة الأبرشية وخيرها ـ على قفا دون كيخوته مرّات متتالية. الجسد الذاوي ينتفض من بطش الضربات، وعزيمتها العفيّة. ترتجّ ضلوعه وتتطقطق عظامه. تهفو البغلة العاقر إلى فارسها، تنخر نخرة في الهواء البارد، وكأنّها تستحسن عند فارسها قوّةَ تحمّله، برغم عقمه، وعقمها. قال جورج: نعم، هذا هو الرمز الحقيقي لدون كيخوته، وليس مصارعته لطواحين الهواء. بغلة نافرة العظام، وفارس قصيف العود.