بعد غربة غير قصيرة، عدتُ حاملاً الحقيبة نفسها؛ الحقيبة التي كنت أحملها عند مغادرتي الحي، وأشلاءَ أحلام، ونفساً مثقلة بجروح هامدة، وحماسة فاترة..
حين غادرت الحي، لم أكن في سن يعير فيها الفرد للزمن قيمة. الآن، وأنا أرتدي من العمر رداءً مهلهلاً، وأخذتني الحياة في دوائر ومنعرجات، أصبحت قادراً على تأجيل كل شيء، وأُمَنِّي نفسي بأمل كاذب..
أتسلَّلُ إلى البيت، أتجول بين ردهاته. تقودني قدماي نحو المطبخ، المجلى مليء بالأطباق والكؤوس الوسخة، كما تركتها. أقصد مكتبتي، كتبي مبعثرة، أوراق يعلوها الغبار. أقلام رصاص بأحجام وألوان مختلفة، لوحة الجوكاندا وقد نبتت على ذقنها شعيرات. كتاب ملقى على الأرض، ألتقطه، أنفض عنه الغبار، يطالعني على غلافه عنوان “المسخ”، لكافكا. أحس بتعب يهدني، فأغفو على سرير إلى جانب النافذة.
أحلم..
أرى الباب ينفتح، يطل وجه “المسخ”، يتقدم مني، يخرج أوراقاً من جيب سرواله. يلقي نظرة سريعة عليها، يكمشها ويلقي بها في سلة المهملات. أتقدم من السلة، أفرغ ما فيها من نفايات، آخذ الورقة المكمَّشة، أضعها في جيب سترتي، وأعود إلى النافذة.. أنتهز فرصة انشغال “المسخ” عني، أخرج الورقة من جيبي، وأقرأ:
” كطائر يعشش فوق أغصان الشجرة الكونية..
أنكفئ إلى ذاتي..
أطل عليها باحثاً في قصر،
في جبل دائري محيط بالأرض..
غادرتِ الْبُوم خرائبه،
عن كيانٍ افتقَدْتُه..
وَجَدْتُني بين من عبروا سبعة أبحر..
بين من تَخَلَّفوا..
بين من وصلوا..
بين من ماتوا خلال الرحلة..
تَأَمَّلْتُهُمْ.. وَجَدْتُني..
مُسْجى بينهم..
وأصواتُ قارئ خاشع..
تُتْلى على جسدي..”.
تلبَّسني قلق، هلعني صوتُ “المسخ” وهو يتردد في أذني، ويقرع طبلتيهما. اقتربَ من المرآة، تحدَّثَ إلى صورته المنعكسةِ عليها حديثاً خاطفاً، أشار نحو النافذة، ورجع إلى مقعد قرب النافذة، ووقف.
الألم يتسلل إلى داخلي، أسئلة حارقة تقضمني.. التفت صوب الشبح، لم أعثر له على أثر. من خلف زجاج النافذة وقفت أسترق النظر.. اغتسلتِ المدينةُ بندى الصباح، همدتِ الجراحُ في نفسي. أُطِلُّ من جديد، “المسخُ” يستوهب عطف رجل غاضب، أراقبه من بعيد، وفي قلبي ينمو غصن أمل.
أراني أصرخ في وجه المسخ.
ـــــــــــــــــــ
*قاص من المغرب