أسطورة قناوي هو عنوان الجزء الثاني من الرواية، ويكتب إدريس علي في مقدمتها: “سيرة غير ذاتية، تجري وقائعها في زمن الهزيمة، فوق هضبة السلّوم بين عامي 1967 و1968” – وهذا الجزء هو قلب أو أصل الرواية ككل، مع محاولة توسيع مجال الرؤية بما يسمح معرفة مآل الرواي الروائي بلال، ومحاولة (مصطنعة قليلاً) لعمل توازي بينه وبين قناوي الصول الصعيدي الشريف، الذي كان رئيساً لبلال في الجيش خلال حرب اليمن، وفي أثناء هزيمة 67، ثم تم إرسالهما معاً كذلك إلى الحدود عقاباً لهما، وعلى عكس بلال يغلب الفعل لا الكلام على شخصية قناوي، الفعل الجازم والباتر الذي لا يفرّق بين لصوص كبار أو صغار. إنه نوع من البطل الشعبي الأسطوري، وربما يحمل بعض ملامح الرئيس جمال عبد الناصر، وهكذا يمكننا أن نتحدث عن بطل أنضجته المحن والتجارب وأضاعته قيم ومبادئ لا يتمسك بها إلا المثاليون في مقابل بطل ورقي، هو بلال، صنعته الأفكار والكتب وكثير الكلام دون فعل ويتوهم نفسه مركزاً للعالم وكرة النار التي تحرق كل من وما تقترب منه.
قبل أن تنفجر جمجمة بلال في نهاية الرواية يقابل مبروكة البدوية العجوز والتي كان لها دورا في مؤامرة دُبرت في الماضي ضد قناوي، يقابلها في لجظة ضياع ويأس وهي بخبرة ودراية تستفز الذكر الكامن بداخله فيظل بجوارها على الحدود، قريباً من ليبيا. مبروكة نفسها بعد أن احتراق بلال وموته، تظل تروح وتجئ تنوح وتعول لافتقادها فحولته الخارقة للعادة، فكأنها تصنع منه أسطورة أخرى جنسية ويقول الراوي، مخاطباً بلال: “ومهما قالتْ عنك مبروكة وشوّهتك، فهي النقطة المضيئة في حياتك: احتفت بك، استضافتك، غامرتْ معك، حافظت عليك”. كما لو أن مبروكة البدوية الشمطاء أتت قرب النهاية فقط لتقوم بعملية إخصاء لأسطورة بلال وأوهامه، لتنزع عنه قشرة المثقف والكاتب وتستبقى فقط على الجانب الحيواني منه، كأنها قالت إنك لستَ إلا فحلاً كأي حيوان أعجم. يقول بلال لنفسه (بعد موته): “يمجّدون أسفلك، مع أن قيمتك وقوّتك ينبعان من جمجمتك المعلّقة فوق السيخ…”
وفي ذروة الفرح الجسدي والتحقق الحسّي يموت بلال ميتته البشعة عندما يحاول أن يجتاز الحدود بالقفز فوق السلك الشائك فينغرز في عينه سيخ مدبب وتتعلق جثته بين مصر وليبيا حتى تتعفن. قد يذكّرنا مشهد موت بلال على هذا النحو بميتات أخرى مشابهة، مثل موت بطل رواية اللجنة لصنع الله إبراهيم، حينما بدأ يأكل نفسه على موسيقى هادئة، وموت بطل رواية الحب في المنفى لبهاء طاهر، في حي الأمراء والكبار وصوت الناي الذي يحمله لموجة من السلام، كأن هذا هو المصير الطبيعي للبطل الفرد، المثقف المشاغب الرافض، صاحب الأسطورة الذاتية ضيّقة الحدود.
يقول المثل الألماني مَن أراد أن يمشي باستقامة في طريقٍ معوّج سيكون عليه أن يهدم بيوتاً كثيرة، وهكذا حاول قناوي أن يمشي باستقامة في طرقات الحدود المعوّجة فقطع أرزاق صغار وكبار المهربين على السواء وهدم بيوتهم، وأصر إدريس علي أن يمشي باستقامة في روايته، فكاد أن يقول كل ما لديه بصورة مباشرة وتقريرية.
ـــــــــــــــــــ
كتب هذا المقال بتاريخ 25 نوفمبر 1998