***
طمأنة
الشيخوخة هي خسران كل شيء.
الشيخوخة، من منا لا يعرفها.
حتي في شرخ شبابنا
ننال منها نظرة بين الحين والآخر
فنطأطئ رؤوسنا إذ يموت لنا جد.
ونبقى نجدِّف لسنين
في بحيرة منتصف الصيف
جَهَلَةً وراضين.
ولكنّ زواجا بدأ بداية سلسة
إذا به يتشظّى ركاما على ساحل البحيرة،
وصديقا من أيام المدرسة
إذا به يسقط على برٍّ صخري،
وحتى إذا جاء حُبٌّ جديدٌ يُقِلُّنا نحو منتصف العمر،
إذا بالموت يفترس منا زوجة في عنفوانها
وذروةِ سحرها.
وتأتي نساء وتمضين.
كلهن يمضين:
الحبيبة الجميلة التي تعلن بنفسها أنها عابرة
هي عابرة.
والجريئة التي تجاوزت الشباب قليلا
فيما تجاوزناه نحن تماما
يعتريها قلق بأنها لن تحتمل.
وصديق آخر
ينأى بعد عقود من الصداقة
بكلام يلوث هواء ثلاثين عاما.
تعالوا إذن نختنق تحت وحل حافة البحيرة
ونطمئن أنفسنا بأنه من الملائم تماما
واللذيذ بحق
أن نخسر كل شيء.
***
لعلكم عرفتم الآن سر المقدمة الطويلة التي استبقت بها هذه القصيدة. لعلكم عرفتم لماذا أطلت الوقوف أمام الحياة التي جمعت دونالد هول بجين كينيون، ولماذا أطلت الوقوف أمام مرضه وفقدانه الأمل في الحياة، ثم مفاجأته برحيل الزوجة الشابة وهي بعد في عنفوانها وذروة سحرها كما يقول الشاعر في النص. سر تلك المقدمة الطويلة والوقفة المتمهلة، هو أن قصص حياتنا لا تكتمل بغير قصص أخرى. سر ذلك أن حيواتنا جميعا تتقاطع، أو هي إن التزمنا بهذا الجذر اللغوي، تقطع بعضها بعضا. فيصبح رحيل أيٍّ كان، رحيلا لنا. أو هكذا كان الأمر عندما فوجئ دونالد هول برحيل جين كينيون، فارتشف في تلك اللحظة أول رشفة من كأس شيخوخته.
وقف الشاعر مرة أمام زوجة رحلت، ولكنه وقف مرتين أمام صديقين خرجا من حياته، كلٍّ بطريقته: أحدهما مات صريعا على شاطئ صخري، والآخر لوَّث بكلمات قالها ثلاثين عاما من الصداقة، ثم وقف من جديد ومرتين أيضا أمام امرأتين حاول أن يعوض بهما الزوجة الراحلة ولكنه فشل في المرتين. وقف إذن هذه الوقفات جميعا، واخترنا نحن أن نطيل الوقوف أمام رحيل الزوجة. هو أصر على محاولة الحياة ونحن أسرفنا في النظر إلى الموت. ولعل هذا التناقض يكشف لنا أكثر من غيره عن سر هذه القصيدة، عن سر الشيخوخة.
ربما لا ينتبه الإنسان بسرعة إلى موت خلاياه. ربما لا يتوقف ـ وإن كان شاعرا ـ ليرثي ضعف قواه، وانحداره المحتوم. ولكنه ينتبه كثيرا إلى رحيل الآخرين، يطيل الوقوف أمام الصديق والزوجة والحبيبة والجد الهرم وكأنه ـ وإن لم ينتبه لذلك ـ يرى فيهم مرايا لذاته الآفلة. ينظر إليهم، وكلما رأى رحيل أحدهم، أحس أنه لا يزال قادرا على الحياة فازداد تشبثا بها. على الرغم من أنها تنسرب من بين يديه في كل لحظة. هو كان جاهلا راضيا في جهله، يتذوق مرارة الحياة رشفة بعد أخرى إلى أن يمتلئ جوفه تماما، وتولد القصيدة. هو لم يكن واعيا بأن الحياة ليست سوى خسران متواصل للحياة. أما نحن فكنا واعين بذلك. هو الذي مر بالتجربة، ثم حكاها لنا كأنها حكاية أخرى غير التي نعيشها جميعا.