توم كلير ترجمة: أحمد فاضل
في حين أن بعض كتاب الخيال الثمانيني مثل فيليب روث وأليس مونرو وسينثيا شوشانا أوزسك وغيرهم تقاعدوا عن الكتابة، إلا أن جوزيف مسيلروي المولود في 21 أغسطس / آب 1930 في أمريكا لازال بكامل حيويته الأدبية على الرغم من تجاوزه الثمانين من العمر بثلاث سنوات ولم تجرفه تيارات الاعتزال هنا أو هناك، بل نراه في أقصى درجات الفرح وهو يقدم لنا مؤخرا رواية مبتكرة حول الحرب على العراق.
وتيار الوعي الذي عرف به هو الأقرب لنمط الكتابة لديه والذي تميزت بها أعماله طيلة الخمسين سنة الماضية، وهو لا يزال أحد الروائيين الأكثر جرأة وذكاء في أمريكا، وقد تناولت رواياته طبقات المجتمع الأمريكي من زاوية عاطفية كرواية “صوت العاطفة”، وكذلك تعرضه لدوامات العنف المستشرية فيه كرواية “الإنذار” و “الصحوة”، كما أنه أحد الكتاب القلائل في أمريكا الذي تناول بصدق عالم المادة هناك، وهو أقرب إلى المقارنة بمواطنه توماس بينشون الذي اتسمت رواياته بالغموض والتعقيد، مع أن مسيلروي لديه حساسية ودهاءا أكبر في ربطه لأحداث رواياته مع ما يشهده عصره من نقلات، على كافة الأصعدة سواء أكانت اجتماعية أو اقتصادية أو علمية .
رواية “المدفع” تبدأ بالتعريف باثنين من الشباب الأمريكان يعملان في الغوص مقابل أجر لا يتعدى 300 دولار في الأسبوع ، أحدهما مهاجر صيني يدعى أومو جاء إلى أمريكا واستقر فيها ، أما الآخر يدعى زاك وهو طالب في المدرسة الثانوية ويعمل غواصا لمساعدة والده الذي يعمل أيضا سباحا ومدربا للغوص في ناد محلي والذي لا يكفي ما يتقاضاه من مال كي يعيل عائلته ، زاك يرتبط بصداقة مع أومو فيطلعه أنه مرتبط بعلاقة محرمة مع شقيقته الصغرى إليزابيث فيواجه بغضب والده ووالدته فيقرر الانخراط بالجيش الأمريكي للهروب من هذا الواقع بعد تخرجه من المدرسة الثانوية كمدرب للسباحة هناك وليجد نفسه بعد مدة متوجها إلى العراق لمشاركة قوات بلاده التي احتلته عام 2003 .
ومع أن زاك كان قد حمل معدات غوصه معه إلا أنه حمل معها كاميرته الخاصة التي استطاع بفضلها الحصول على صور واقعية لمشاهد الغزو ما جعل رؤسائه ينتقدونه ويلفتون نظره بوجوب الاهتمام بعمله الحقيقي ومشككين بالوقت نفسه بوطنيته لوقوفه ضد هذا الغزو ما أجبره كل ذلك على إخفاء كاميرته والتوجه إلى أحد قصور صدام للغوص في حمام سباحته الواسع أملا باكتشاف لفائف قديمة ترجع إلى أيام يسوع النبي كانت قد اختفت هناك فيقوم مع أومو وبتوجيه من بعض قيادات بلاده العسكرية بالغوص في هذا المسبح ومسابح أخرى من تلك القصور للعثور على ما يقوله البعض من تلك القيادات أنها لفائف دونت عليها مقابلة مع يسوع جرت قبل آلاف السنين أخفاها صدام ، وبينما هما في إحدى نوبات غوصهما يتعرضان لانفجار مفاجئ في أحد أحواض السباحة الذي انهار عليهما فينجو زاك بينما يختفي أومو تحت حطام ذلك الحوض يعثر بعدها على جثته تحت الأنقاض .
زاك بعد نجاته من ذلك الانفجار يرجح أن الأمر كان برمته مؤامرة تم ترتيبها من قبل الحكومة الأمريكية لتوجيه اللوم على المسلحين العراقيين الذين يقاومون ذلك الاحتلال ، وما يزيد الموقف غموضا لديه أن قصة اللفائف القديمة قد تكون هي الأخرى مفبركة فيرسل إلى والديه رسالة بكل تلك الأحداث تقع بيد أحد الجنرالات الذي يعتبر أن زاك يحاول إفشاء أسرار عمله فتصله تهديدات إما أن يصمت أو ينتظر الموت أو الاختفاء، تتطور الأحداث بعدها حيث يعلمونه بوصول تهديدات لعائلته وشقيقته فيسعى زاك لتبديد مخاوف الحكومة الأمريكية حيث يعود إلى عمله ولكن هذه المرة في النهرين الكبيرين دجلة والفرات بعد أن شعر كم هو قريب من فوهة المدفع.
الرواية ومع أن فكرتها واضحة إلا أنها جريئة في طرحها وسوف يصاب قارئها بالإحباط لأنه كان يتوقع منها أن يتعرف على صور قريبة من المعركة بعد أن قرأ من قبلها روايات عديدة عن هذه الحرب الشرسة كرواية ” طيور صفراء ” لكيفن بورس وغيرها، والشيء المهم فيها هي تلك الإشارات التي احتوتها كاهتمام الأمريكان بتاريخ العراق القديم وقد تكون اللفائف هنا حقيقية أو لا تكون فهي صورة تعكس ذلك الاهتمام، أو الترويع الذي يمكن أن تطلقه تلك الإدارة في أي وقت تجاه أفرادها خاصة العسكريين منهم ، والحقيقة الغائبة فيما كان يحدث على الأرض خلافا لما كان يقوله دونالد رامسفيلد وأركان قادته ومستشاريه الذين كان بإمكانهم تلافي الوقوع في أخطاء عديدة كشفتها وقائع الاحتلال.
الرواية يمكن قراءتها على أنها حرب الأيديولوجيات غير المعترف بها والتي تؤدي إلى الصراع ، لكن مسيلروي لديه أكثر من تعليق سياسي ساخر في ذهنه لهذه الحرب وظفه على طريقة عمل شخوصها الأساسي وهو الغوص وفعل نفس الشيئ في تحليله لواقع المجتمع الأمريكي والإنحلالات التي تدفع بالبعض كي يفروا من واقعهم ، وحتى كلمة المدفع لها دلالاتها التي تصبح هنا خالية من المقذوفات بأخرى أشد فتكا على النفس ، وعلى الرغم من أن الخطوط العريضة للرواية تتبع تسلسلا زمنيا واضحا هو سنوات الحرب في العراق ، لكنها كثيرا ما تتكسر فيها الجمل لتصبح قطعا وشظايا صغيرة من شأنها أن تغير تلك الخطوط والحوار فيها يتوقف أحيانا نتيجة لاستنتاجات سريعة يعود فيها بعد ذلك الاستطراد ليحول سياقاتها مرة أخرى.
الرواية في بعض فصولها مبهمة لسبب غير مفهوم ، لكن مسيلروي يوفر نوعا فريدا من المعلومات كي يجلي ما صعب على القارئ خاصة ما يتعلق منها بالسباحة والغوص وحساب الضغط على الأجسام البشرية في أعماق سحيقة من النهرين الكبيرين وممراتهما المائية والجوفية المترابطة وملوحتهما في بعض أماكن جريانهما ، ولا ينسى أن يجعل لبطلها زاك مواقف تتسم بالإنسانية منها إنقاذه لطفل عراقي كاد أن يغرق في النهر والصور التي التقطها كي تكون شاهدة على هذه الحرب المدمرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن صحيفة ديلي بيست
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد فاضل
مترجم وناقد – العراق
ــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة