هكذا يكتب أحمد عبد اللطيف ببساطة تسم عمله الأول “صانع المفاتيح” الصادرة عن دار العين. وهي بساطة تشي بموهبة روائية لا تصخب في الإعلان عن نفسها كما يفعل كثير من الكتاب في رواياتهم الأولي حين يتخلون عن البساطة خوفا من أن يقلل النقاد والقراء والمتابعين من أعمالهم. فعلي العكس فإن بساطة عبد اللطيف تشفّ عن خبرة بالكتابة، وعن قدرة علي التصوير، وعن موهبة يمكن أن تفلت علامات أصالتها بين الحين والآخر، بداية من قرار نسج روايته في قالب أسطوري، وانتهاء بقرار صياغة رواية متعددة الأصوات، ما بين سرد الراوي العليم وتدوينات صانع المفاتيح.
صانع المفاتيح.. الشخصية المحورية في الرواية، يقرر ذات يوم بعد أن ضاق بسماع حكايات أهل قريته عن الفساد الذي ضرب القلب منها أن يصنع مفتاحا لأذنيه، بهذا المفتاح يمكنه أن يفتحهما وقتما يشاء ويغلقهما وقتما يشاء. مفتاح السمع هذا بات في أيام معدودة مطلبا شعبيا، فالجميع لا يرغب أن يمضوا في الاستماع لما يحدث في فندق الخواجة لاللي وما يحدث في مستشفي الرحمة التي يديرها “الدكتور”. كما أن أهل القرية يمضون في تمنياتهم لأبعد من ذلك بعد أن جرّبوا هدوء ألا تستمع لما يمرّر أيامك، فيطلبون مفاتيح للبصر، ومفاتيح للكلام أيضا!
****
تسأل الرواية سؤالا حول المعرفة، هل يمكن الإفلات من عذاب المعرفة، أم أن هذا الإفلات لا يتحقق إلا بمزيد من المعرفة؟.. عبد اللطيف يُصدّر للرواية بمقطع من الآية الكريمة “صم بكم عمي” والتي تستدعي نهايتها “فهم لا يعقلون”، كما لو كانت “صم بكم عمي” هي مفتتح رواية تنتهي ب “فهم لا يعقلون”. ذلك أن أهل القرية الممرورين بمعرفتهم بما يجري حولهم والذين يشاركون فيه بالطبع، فهم ليسوا أبرياء منه علي نحو ما، بدليل أن فتياتهم إما أنهم يستسلمون للزواج من أثرياء العرب، أو يعملون في فندق لاللي، أما رجالهم فإنهم إما يعملون مع الدكتور في مستشفاه “مستشفي الرحمة” والتي ظاهرها الرحمة وباطنها نقل قرنيات مجذوبي القرية السليمة لأعين الأثرياء الجدد. فهل يمكن لهؤلاء تبرئة ذيولهم بفقدان طوعي عن الحواس (أدوات المعرفة) أم أن عليهم الكشف عن مواطن تقرحات ضمائرهم بدلا من إخفائها. إن الرفض القاطع من صانع المفاتيح في الاستمرار في صنع مفاتيح السمع، فضلا عن رفضه التام لصنع مفاتيح لباقي الحواس دليل علي وعيه في النهاية بضرورة المعرفة، بضرورة أن يفتح أهل القرية عيونهم وآذانهم وأفواههم لتخليص قريتهم من الدنس. فإما ذلك وإما فإنهم لا يعقلون!
هذه الفانتازيا الروائية لا يفلت بها عبد اللطيف من وطأة البعد الاجتماعي، فالتاريخ حاضر أيضا من البداية، فالقرية هي قرية عبود باشا الذي اشتري مصانع السكر التي أقامها رجل أعمال بلجيكي في بدايات القرن الماضي (ولا أعرف لماذا غيّر الكاتب من هذه الواقعة التاريخية مفضلا أن يمنح عبود باشا شرف إنشاء المصنع من البداية). أي أن القرية لها حضور اجتماعي، فضلا عن أنها كبعض قري مصر التي تنتشر بها ظاهرة تزويج القاصرات للأثرياء العرب، فضلا عن الإشارة لجدل نقل الأعضاء الذي كان مُثارا لفترة قريبة، فضلا عن الإشارة إلي العالم الإعلامي الذي أصبحنا نعيش فيه. لهذا تتداخل الفانتازيا مع واقعية الأحداث التي لولا الفكرة الأصلية (صناعة مفاتيح للحواس) بتفصيلاتها، كلجوء يوسف للجبل للتأمل، كرغبته في التدوين، كسلسلة الأحلام التي ترواد كل الشخصيات نتيجة لضمائرهم المثقلة بالذنب، كالنبوءة التي تدشن الرواية وتصنعها، لولا هذه الفكرة وتفصيلاتها لكانت رواية واقعية للغاية.
****
الفانتازيا امتدت أيضا للطريقة التي ظهرت بها الشخصيات، صانع المفاتيح نفسه والذي لن نعرف له اسما إلا في نهاية الرواية، شخصية أسطورية للغاية لدرجة الإلحاح علي تشبيهها بالأنبياء (هو نفسه يقول في نهاية الرواية إن القرية وصلت لدرجة لا تُحتمل، درجة تستدعي وصول نبي أو مُخلّص رغم أنه لن يكون هذا الشخص). شخصية لاللي تبدو أيضا شخصية أسطورية، ورغم أن لها اسما فإنها نتيجة للإلحاح علي رمزيتها (كشر مطلق) تفقد أي ملامح بشرية.
وفي ظني أنه رغم الإطار الفانتازي فإن الشخصيات كانت في حاجة لعناية أكبر، ففي اللحظات القليلة التي نتلمس فيها “بشرية” شخصية كشخصية الدكتور (كرفضه النوم مع زوجة البواب مثلا) يصبح للقراءة متعة خاصة، متعة كانت لتمتد لو أن الشخصيات أكثر حميمية مما ظهرت عليه، حتي ولو فقدت الرمزية المتعمدة، ففي ظني أن هذه الرمزية حولت الشخصيات إلي كائنات شبه مصمتة، وكان أجدر بالكاتب أن يترك لها زمام الفعل خصوصا وأن شخصيتي الدكتور وجميلة كانا مؤهلين لقدر أكبر من الحيوية.
ومع هذا فإن الرواية من الروايات التي تشي بكاتب يعرف ماذا يفعل، لديه وعي شديد باللغة، وبطرق السرد، ولديه هم اجتماعي أيضا، ما يؤكد أنه قد بدأ الطريق لشغل مكان متميز بين جيله. رواية تستحق أن تقرأ.