أنا يا صديقي نقطة حبرٍ جديدة، لم توضع فوق حرفٍ ثابت، ومساحة ما متوقّعة، لم تتشكّل نهائيًّا بعد. في يدي نصفُ زهرة بيضاء، في يد العالم نصفها الآخر. وحدي، أراهن على اكتمال البياض. ما أخطر الرحلة، بعد انسحاب ظلي المضيء فجأة، ربما لالتقاط الأنفاس، ربما لانحسار الوقود! الفرق الجوهري بيني وبين ظلي، أنني لا أخشى أبدًا نفاد رصيدي من الطاقة، لأن منبعه حيوية الحياة.
ليست معي بوصلةٌ واحدة صادقة، أتحسس بها الجهات الجغرافية والمغنطيسية، لكنني أؤمن بأن الجهات الأصلية كلها يمكن الاهتداء إليها بالقوة الروحية، ومعانقتها بالحواس الخمس المعروفة، والحواس الذائبة في الضمير، بدون أن تحمل خطواتي رائحة إبرة ممغنطة.
أنا المشتاق دائمًا إلى الذي لم يكن أصلاً، لا أصدق أن النجوم تحدثت عني كما قيل لي، لأنني أرى القمر الصامت يحكي عني أكثر.
أنا جسر الحوار الحميم بين الإنسان الآلي والإنسان الإنسان، قصيدة برزخية تصل العالم الحقيقي بالعوالم الافتراضية والإلكترونية، خفقاتُ قلبٍ بغير عروقٍ، شحناتُ برقٍ بلا أسلاكٍ، نقاطُ إنترنت مضيئة بدون خيوط عنكبوتية، فيروسات نشطة تدور عكس عقارب الساعة، عكس صدأ الوقت، عكس برامج تشغيل الكمبيوتر والقوانين الأساسية للروبوتات.
أنا المنزلق حافيًا فوق أرض خشنةٍ، الهازئ بِمُعامِل الاحتكاك وشروط الحياة الجامدة. أنا حامل التحيات للعناصر المشعّة بذاتها في الوجود، لا لمصابيح راضعةٍ من كهرباء.
أنا الذي حينما أَخُشُّ فراشة القز أحب أن أكون حرير روحها، وحينما أخرج من دودة القز لا أحب أن أكون حرير شرنقتها. أنا غير المتعادل دائمًا، حتى إذا سكنتْ روحي المصابةُ بالحموضة جسدًا قلويًّا. أنا الذي إن ذبتُ بسرعةٍ في البنّيّ المحروقِ، بديناميت معشوقتي المتعجّلة تصفيتي، لم أخش تحللي النبيل، بقدر ما أخاف على نضارة ناسفتي من فنجان قهوة سريعة التحضير. أنا الذي أمنّي نفسي بسلامة الوصول، ليس عن ثقةٍ، لكن لأن جُرحي سبقني ووصل “سليمًا”، إلى الضفة الأخرى من المتاهة!
ـ ماذا وجدتَ في الشعر حتى جعلته أول اهتماماتك الإبداعية؟
= الشعر عندي ليس اهتمامًا، بمعنى الاحتشاد والانشغال والقصدية. الشعر عملية حيوية، عادية جدًّا، لكنها لازمة للوجود، شأن التنفس والهضم. الشعر هو “التمثيل الضوئي” الذي فُطرت عليه روحي، وتمارسه ليل نهار، بكلوروفيلها الخاص جدًّا، ولا تستلزم آلية عملها طاقة الشمس كأوراق النباتات.
الميكانيزم معقد بالتأكيد، هذا أمر مسلّم به، لكنني لا أقف كثيرًا عنده، طالما أن العملية تحدث من تلقاء ذاتها (عملية تحويل طاقة الحياة إلى طاقة شعرية)، وطالما أن المنتج غزير وافر بفضل الله، والأهم أنه منتج جديد، مرغوب فيه، لا يشبه غيره، قادر على أن يترجم بأمانة شفرتي الوراثية، ويعكس مكابدات صديقي الإنسان في كل مكان، ويرسم صورة بانورامية لهذا العصر الآلي الرقمي الأجوف، بتركيز شديد.
أنا لا أبسّط الأمور أكثر من اللازم، ولا ألغي التخطيط والذهنية ومقومات الاحتراف ولوازم الثقافة والمعرفة التي تنبني عليها أية تجربة شعرية طموح، لكنني ـ صَدّقني ـ أراهن في الأساس على نفاسة المعدن بصورته النقية، على “الشعرية الخام” إذا جاز التعبير، وهذه هي الإجابة عن سؤالك ببساطة: إن الذي وجدتُه في الشعر هو “الشعر نفسه”، كما تمنيتُ أنا أن يكون، أي بالصورة التي تستهويني، ومن ثم فإنني أشرك القراء معي ببساطة وحميمية في ملامسة هذا الجوهر، الذي أراه مختلفًا نادرًا، من وجهة نظري أنا على الأقل.
ـ ديوانك الأخير “البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية” (الجزء الأول من: الأعمال الكاملة لإنسان آلي)، يختلف اختلافًا كليًّا عن إصداراتك السابقة، هل لك أن تحدثنا عنه، وماذا أضاف إلى تجربتك الشعرية؟
= النماء والتطور من سمات الحياة، إذا تجردت منهما التجربة الشعرية صارت استهلاكًا لما قيل من قبل، مثلها مثل علكة ممضوغة، تظن ـ بالخطأ ـ أنها حية، رغم أنها فقدت سكرها الطبيعي.
تحاول تجربتي (بداية من ديواني الأول “بينهما يصدأ الوقت”، حتى ديواني الأخير متعدد الأجزاء “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”) التعطر ببارود الحياة مع كل حرف أكتبه، بل تسعى لأن تضخ هي غازاتها الخاصة، غير الخاملة، القابلة للاستنشاق ـ والاشتعال ـ في حجرات المعيشة العادية، وفي معامل التحليل النقدي لفصائل المبدعين، وفي غرف إنعاش الذائقة الشعرية.
في “الأعمال الكاملة لإنسان آلي” (التي صدر أول أجزائها بعنوان: البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية) تطورت تجربتي الشعرية، هكذا قيل لي، ازدادت تكثيفًا وتركيزًا، وعمقًا إنسانيًّا، وبساطة في الوقت نفسه. الضرب هنا على وتر واحد، جريح، واهن، لكن الرهان معقود على حساسية اللحن، وليس على إبهاره. العازف لا يريد إثبات أنه يعزف على كل الآلات، لكنه يطمح أن تكون نغمته الجديدة الأكثر تأثيرًا. قد أكون مشيتُ خطوة إلى الأمام، وقد تكون خطوات، وقد أكون صعدت درجًا عاليًا، هذا ما لا أستطيع أن أدعيه لنفسي، فقط أنا أنظر إلى كتابي، عفوًا الكتاب الذي اختطته أصابع “الروبوت” الذكية، كأب حنون بديل (الأب الشرعي هو الإنسان الآلي)، وأراقب ردود الفعل الإيجابية التي أحدثها داخل مصر وخارجها في فترة وجيزة، فأشعر بسعادة بالغة.
الحياة الحقيقية ذاتها، هي التي دفعت الإنسان الآلي إلى هذه “الهجمة الفنية” على الحياة، ليحاول تحسُّس فيزيائها بالأصابع، واستشفاف إكسيرها بالروح، التي لم تتسرب كلها بعد. الهواء الفاسد هو الذي أجبره على فتح النافذة، حلم الخلاص من سوء التهوية، وهي قد تكون نافذة حقيقية للإطلال والاكتشاف بشكل مباشر، وقد تكون نافذة إلكترونية إنترنتية (Window) للبحث الإلكتروني.
هذا الروبوت المبدع، المتمرد على القطيع، لم يقفز من النافذة منتحرًا، بل إن معنى الانتحار النسبي قد يصبح “فرصة حياة”، لمن هو ميتٌ أصلاً. لقد قرر الروبوت الانسحاب غير المسبوق، غير محسوب العواقب والنتائج، من هذه الغرفة الكونية المجهزة، المرتبة، الصالحة لحياة ميكانيكية الطابع، رقمية الانتظام، محسوبة الأبعاد، لكنها غرفة غير مشمسة، لا تمرح فيها الأرواح. لقد انتقل الإنسان الآلي من حياة هندسية زائفة، تساوي جوهر الموت، إلى حياة افتراضية، فوضوية، يبحث فيها عن ذاته الإنسانية المنقرضة، ويطارد فيها بحريّةٍ نيرمانا المفترضة، ذات الأسماء والتيمات المتعددة، التي يؤمن بوجودها جميعًا وحده.
لقد زادت الأمور توحشًّا فيما يخص استلاب إنسانية الإنسان، ومحو إرادته الحرة ومبادرته وقدرته على اتخاذ القرار، كذلك ترسخ منطق الاستقطاب وضرب الخصوصيات والهويات في مقتل، وإعلاء شأن الأرقام والبرمجيات وقيم التسليع والقوانين المسنونة، التي تحكم حركة البشر. الإنسان آلة مقهورة بالفعل، والقوة القاهرة أيضًا ماكينة عمياء. الاقتصاديون والسياسيون والحكماء يتخوفون من نضوب طاقات العالم، ويبحثون عن الطاقة البديلة، تلك الأضحوكة الكبرى في عالمٍ نفدت طاقته الروحية. ومن ثم، فإن الشاعر، الروبوت المبدع المتمرد على القطيع المروضين الخانعين، يبحث ـ أول ما يبحث ـ عن الطاقة، التي تأكد نفادها بالفعل: الطاقة الروحية، ذاته المنقرضة التي تآكلت، فإن عثر عليها، واصل البحث عن أشياء أخرى فيما بعد.
وفي نهاية النص، عاد الإنسان الآلي إلى نقطة البداية، ولم يعثر على نيرمانا، أو ذاته السرابية المنقرضة، التي كان يدرك مسبقًا أنه لن يجدها، لكنه أبدًا لم يعد حاملاً الصفر الحسابي، بل تحرر فعليًّا من كل القيود، اكتشف فردانيته وخصوصيته، تحرك ضد الإجراءات، ضد البرمجيات، خارج شروط الريموت كونترول في يد القوة المهيمنة، أية قوة، ضد سيادة النظام، أي نظام. ومن ثم، فإنه تمكن من كشف ومعاينة سوءات عصره، الغارق في التسليع والميكنة والتقنية، ووضع يده على أبرز المستجدات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والعلمية، التي قادت الإنسانية إلى هذا المصير البائس، حيث لا مكان للفرد في معمعة سحق الجموع، وحيث تتم ممارسة كل الأمور والشرور بحساب: الاحتلال والقتل بحساب، الإنتاج والاستهلاك بحساب، المواليد الجدد بحساب، التربية والتعليم والتثقيف بحساب، العمليات الحسابية نفسها بحساب مفرط!
إن الرحلة، التي قام بها الروبوت، ربما لم تنجح إجرائيًّا كوسيلة لعثور الروبوت على إنسانيته المفقودة، واحتضانه المباشر لها، لكنها نجحت ضمنيًّا كغاية في حد ذاتها. هذا اللهاث المضني هو في حد ذاته قيمة كبرى، ودعوة للتمرد، وتجربة البديل، خصوصًا أنه لا يوجد ما يستوجب الحذر، فالحياة الآلية المتاحة هي حياة زائفة، محنطة، منتهية إكلينيكيًّا، محبوسة في غرفة كونية معقّمة، فكان الأجمل بالتأكيد أن تلوثها نيرمانا بفيروس التمرد اللذيذ. لقد حضرت نيرمانا من المجهول، لتقود صاحبنا الآلي إلى المجهول، وتدير اللعبة من الخلفية، وقد رضي الإنسان الآلي برغبات نيرمانا، دون سواها، لأنها الوحيدة التي عرفت كيف تديره من الداخل، وليس من الخارج. وهذا ما عبر عنه الروبوت بقوله:
“اعْتَرَضْتُ كثيرًا
على أن تُدارَ ذاتي من الخارجِ
ليس لأنني إنسانٌ حُرٌّ
ذو إرادةٍ وعقلانيّةٍ وَمُبَادَرَةٍ،
ولا لأنني مُتَرَفِّعٌ عن حَفْنِةِ دولاراتٍ،
بل لأنني كائنٌ أنانيٌّ إلى أبعدِ الحدودِ
أفضِّلُ مَصَّ أصابعي
على استعمالِها كأصابعِ ديناميت في المناجمِ
أو كأصابعِ سوسيس في المطاعمِ العالميّةِ
أو حتى كـ”أصابعِ زينب” لإطعامِ أطفالِي في العيدِ/
لماذا وافقْتُ بسهولَةٍ
على أن تُدِيرَنِي نيرمانا؟
ربما لأنها تَحَمَّسَتْ لإدارتِي من الداخلِ”
وللوهلة الأولى، قد يبدو ديواني “الأعمال الكاملة لإنسان آلي” انتصارًا للآلة، فالروبوت هنا هو البطل، بالمعنى الكمي، وهو الثورة، والثائرون كلهم، إذ لم ينضم أحد إلى لوائه! لكن المنتصر في حقيقة الأمر هو الإنسان، لأن هذا الروبوت ـ ببساطة ـ هو روبوت منقلب على قوانينه وبرمجياته، شاذ عن منظومة الحياة الآلية، راغب في الارتداد إلى إنسانيته. الإنسان الغائب، الذي يبحث عنه الروبوت، هو البطل الفعلي، وليس الروبوت الحاضر، الذي يبحث عن الإنسان في صحراء الكون الشاسعة.
ـ كيف تنظر إلى دور اللغة في نصوصك الشعرية؟
= في “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”: الشعر وحده على المائدة، اللغة نثرية، مباشرة، توصيلية، متخلصة من الأوزان والتفاعيل وسائر المساحيق الماكياجية، حتى جماليات الحرف الطباعي لا وجود لها. الوصول إلى المعنى ـ على مستوى اللغة على الأقل ـ يتم بأقصر الطرق، الفضاء الكلي الذي يدور فيه النص غير بعيد المنال، فهناك الروبوت الذي يجري محاولات بحثية متكررة، مستخدمًا كافة طاقاته المعرفية والإدراكية، ومعتمدًا على تقنيات عصره، وعلى رأسها شبكة الإنترنت. وهناك نيرمانا، تلك التي يبحث عنها، وتتخذ عشرات الأسماء ذات المعاني المتعددة في مختلف الثقافات والحضارات. ومن خلال بحثه عنها، الذي هو بحث عن ذاته المفقودة أو المنقرضة في حقيقة الأمر، يصل إلى اللاشيء، لكنه يكتشف سلبيات عصره، ويتمكن من الاعتراض الجمالي على حياةٍ خَنَقَتْها الهندسَةُ. إن تعرية إنسانِ القرنِ الحادي والعشرين بهذه الصورة قادتْ ـ بسلاسة ـ إلى فضحِ سَوءاتِ عصرِ الأرقامِ والتسليعِ، عصر الحسابات التي لا تقبل المراجعة، عصر غياب الإرادة الحرة، والعقلانية، والمبادرة، والفوضى المشروطة، والقدرة على اتخاذ القرار (يقول الروبوت في أحد المقاطع: الأهم لماكينة ميتة من الكهرباء وبرنامج التشغيل، أن تصبح قادرة على الحشرجة وقتما تشاء). لقد تماس هذا “البحث عن نيرمانا” مع المتلقي، لأنه في حقيقة الأمر بحث عن دفء الحياة، عن لذة المحاولة والخطأ، عن رائحة العرق، عن وجع المشي بدون حذاء فوق الأشواك والمسامير. بحث عن الخلاص من أسر “القوانين” و”البرمجيات” و”الأرقام”، التي حولت البشر إلى قطيع يمكن توجيه خطواته عن بُعد.
وأحب أن أوضح أنني في “الأعمال الكاملة لإنسان آلي” لم أتبرأ من كتابتي السابقة، كما يظن البعض، بل إن كثيرًا من أجواء هذا المشروع مستمد من وهج “الألوان ترتعد بشراهة”، تلك الجدارية الكبرى التي اتسعت لأصوات متعددة متداخلة، وأحد هذه الأصوات كان يقدم لحنًا غير بعيد من اللحن الذي يعزفه “الإنسان الآلي” حاليًا. كل ما في الأمر أن هذا الصوت الذي أحبته الآذان الآن، إنما أحبته لأنه ظهر وحده في المشهد، عازفاً كونشرتو بسيطًا، فبانت روعته. أما حينما كان متداخلاً مع غيره في سيمفونية مركبة، كانت الرؤية أصعب، ولم يتمكن إلا قليلون من الاستمتاع بكل هذه الأصوات، في تجاورها وتحاورها الفني، وتعبيرها عن كافة الأصداء دفعة واحدة. في التجربتين لم أكن مهندسًا، كنتُ فقط شاعرًا، أرسم ذاتي والعالم من حولي في تجادلهما، بأدواتي أنا، وبدون أن أشبه أحدًا، لكنني في التجربة السابقة أطلقتُ كل العصافير في بوتقة واحدة، وهنا ـ في تجربتي الجديدة ـ أفسحت المجال لعصفور واحد ليغرد، بقدر ما يتسع المجال لتغريده الحر.
ـ إلى أي مدىً يشغلك القارئ وأنت تكتب شعرك؟
= “إلى أي مدىً يشغلكَ القارئ؟!”، مثل هذا السؤال يشي بأن القارئ من المحتمل أن يغيب كليًّا أو نسبيًّا عن الكتابة، وإن حضر ـ ولو كليًّا ـ فإنه يحضر بقوة “الانشغال” و”الاشتغال”! ما هذا الفصل التعسفي بين الشاعر وقارئه، بين كيانين منصهرين تمامًا، بل كيان واحد، يغذّي أنسجته دمٌ واحدٌ، وهواءٌ واحدٌ؟!
أتصور أن “حياة الشعر” مرهونة في الأساس بكونه “شعر حياة”، فبقدرة النص الحيوي على النبض الطبيعي والحركة الحرة ـ بدون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسجين وأطراف صناعية ـ تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الحقيقي، ويمتد عمره الافتراضي خارج المكان والزمان. حضور القارئ، بل حلوله، في الماهية الإبداعية الملغزة، هو وضع طبيعي يعكس انفتاح المبدع كإنسان على أخيه الإنسان، ويعكس انفتاح الكتابة الإبداعية على العالم الحسي المشترك، والوقائع والعلاقات المتبادلة، وأيضًا على الأحلام والهواجس والافتراضات والفضاء التخيّلي غير المقتصر على فئة نخبوية دون سواها!
لقد أفسد الوسطاء (الذين لا يمتنعون) كل شيء، حتى صفاء العلاقة بين الشاعر وقارئه، عفوًا بين الشاعر ونفسه، فصار الشاعر يخاطب نفسه عبر وسيط، ويرى الحياة من خلال مناظير وتليسكوبات، مع أنها أقرب إليه من حبل الوريد! لقد أفسد الوسطاء ليس فقط رؤية العالم، لكن أيضًا “تشكيله” أو “إعادة صياغته” كما يقول البعض، فحلّت الأغذية المعقدة، المليئة بمكسبات الطعم والألوان الإضافية والمواد الحافظة، محل الصحي المستساغ المؤثر البسيط، الأقرب إلى الفطرة والبدائية، وهو الذي يترفع عنه البلاغيون المقولبون وذوو المفاهيم المعلبة، مع أن خبزهم اليومي وحصادهم المعرفي في جوهره من طحين البشر في علاقاتهم وتفاعلاتهم الطبيعية، ومع أنهم ارتضوا بنشر أعمالهم في كتب ومجلات من لحم ودم، يتم عرضها فوق أرفف مكتبات، وعلى أرصفة شوارع مزدحمة تدوسها أقدام البشر!
لتحديد (إلى أي مدىً “يشغلني” القارئ؟!) أقول بمنتهى البساطة: ليست هناك مسافة أصلاً بين الشاعر والقارئ، بشرط ألا تكون هناك مسافة بين الشاعر ونفسه. إن الشاعر الذي يقول ما لا يطمح أحدٌ أن يقوله أو يسمعه، أو ما لا يصلح أن يردده أحدٌ غيره، هو في الحقيقة لم يقل شيئًا، لأن فعل القول هنا أحادي ناقص، على أن هذا الأمر لا يتنافى مع مسلّمة أن الشاعر الكبير يجب أن يكون مغايرًا متفردًا، وتلك هي المعادلة الصعبة.
إن الاستمتاع الذاتي بالكتابة الحرة، كغاية أولى وأخيرة للشاعر، ووضاءة الاستشفاف النقي، وفردانية التعبير، وخصوبة وعمق التكثيف الشعري لحركة الحياة، والقدرة على بلورتها بذكاء في قطرات مضيئة مدهشة، أو ما يمكن تسميته عمومًا بـ”شعرية الشاعر، وآلياتها”، ليست أبدًا عوازل حرارية ولا أبراجًا عاجية، تفصل روح الشاعر المتقدة عن أرواح أخرى أقل أو أكثر نشاطًا تدور في الفلك نفسه، لكنها كلها تشكل جوهر الشاعر الفذ المتّقد، وطاقته الكبرى التي تمكنه من الالتصاق الحميم أكثر بالأرواح التي هي ملتصقة به أصلاً، فيقول الشاعر بفعل هذه الطاقة المتوهجة ما يتمنى القارئ أن يقوله إذا توفرت له هذه الصلاحيات التعبيرية التفجيرية.
وتظل معجزة الشاعر الحقيقية مقترنة بأنه هو الذي تمكن بالفعل ـ دون سواه ـ من قول ما تمنى الكثيرون أن يقولوه، على هذا النحو الطازج المدهش، وأنهم قالوا مقولته، بعد أن قالها، ليعبروا بها عن أنفسهم، ويفهموا أعماقهم وأعماق العالم أكثر. وهذا الأمر لا يتنافى أيضًا مع كون القصيدة النثرية الحديثة نتاج معاناة فرد في الأساس، وتلك معادلة أخرى أكثر صعوبة.
انطلاقًا من هذا، وفي القرية الكونية التي نعيش فيها الآن، وفي فضاء النشر الإلكتروني، وفي ظل امتلاك أغلبية الشعراء ـ وأنا منهم ـ مواقع شخصية على شبكة الإنترنت، أطمح ـ كشاعر ـ إلى أن أكون صوت نفسي بالضرورة، وصوت صديقي القارئ، صديقي الإنسان، في كل مكان، خصوصًا أن هموم البشر الملحة صارت تتعلق أكثر بمصيرهم المشترك، بوجودهم ذاته، وليس بقضاياهم الإقليمية المتضائلة.
في ديواني الأخير “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”: أنا الشاعر وأنا القارئ معًا، أنا قارئ ذاتي وقارئ قارئي، والقارئ قارئ ذاته وقارئي، والنص الشعري نصف زهرة تكتمل بالآخرين، والرهان معقود على قدرة النص على اختصار مكابدات إنسان القرن الحادي والعشرين في القارات الست، في المجتمعات المستضعفة، وفي بؤر القوة المهيمنة في الآن ذاته، لأن الإنسان ـ في الجانبين ـ مهزوم، وغائب، وبلا روح، يبحث عن ظل شعري يتنفسه.
ـ هناك أصوات تعتبر أن قصيدة النثر طاقة شعرية هائلة ومختلفة، في حين ترفضها أصوات أخرى، وبخاصة أصوات النقاد المحافظين، وتقول إنها لا تنتمي إلى الشعر لغويًّا وفكريًّا وإيقاعيًّا، وإنها وضعت القارئ العربي في حيرة من أمره، ودفعته إلى مقاطعة الشعر عمومًا. ما تعليقك؟ وأين ترى موضعك بين تيارات وأجيال الشعراء؟ وكيف ترى مستقبل قصيدة النثر في مصر؟
= الشاعر، في تصوري، هو الشاعر، مُوقظ مَنْ هو نائم، ومُوقظ مَنْ هو مستيقظ، بغير جرس إنذار، مفجّر الحياة ومُشعل النار في الأبجدية، بغير كبريت، سواء استخدم الإيقاع أو تركه، وفي الحالتين يجب أن يكون الشاعر ملمًّا به، ليكون استخدامه الإيقاع بسبب، وتركه أيضًا بسبب، وليس جهلاً به.
منذ بدايتي، وأنا أنتمي إلى يقين شديد الخصوصية فيما يتعلق بالأجيال الشعرية، والتصنيفات النوعية للشعراء، بل وللشعر نفسه. أنا أرفض أن أوضع في خانة بالغة الضيق تسمى “جيل التسعينيات في مصر”، لمجرد أنني أحمل بطاقة هوية مصرية، وصدر أول دواويني في تلك الحقبة الزمنية، مع أن شعري لا يتشابه مع أحد من المصريين الذين نشروا دواوينهم في تلك الفترة! ويزعجني للغاية أن أوصف بأنني “واحد” من شعراء “قصيدة النثر” في الوقت الحالي، لمجرد أنني لم أستخدم التفاعيل في “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”، مع أنني استعملتها من قبل..، وماذا لو استعملتها في نص جديد، هل سأكون منافقًا أو صابئًا، وكيف سيتم تصنيفي وقتئذٍ؟!
إن محاولة تصنيفي في إطار جيل، أو تصنيف شعري ضمن تيار، على أسس فيزيائية جامدة، أمر يصيبني بالإحباط، بل يقتل طموحي المشروع الذي لا حدود له، نحو أن أكون أنا جيلي كله، ويكون شعري هو التيار الذي أصنعه أنا، وأنتمي إليه أنا وحدي. إنني لا أفهم الشاعر الحقيقي، ناهيك عن الفذ، إلا من هذا المنظور.
هناك هموم ومكابدات مشتركة، صادفها الشعراء في مصر في العقدين الأخيرين، هذا أمر مؤكد. هناك بعض القناعات الجمالية التي تم الالتقاء عليها في بعض الدواوين، هذا ما حدث بالفعل. لكن ما يطلق عليه “جيل التسعينيات”، ومن يسمون بـ”شعراء قصيدة النثر”، يمكن اختصارهم في حقيقة الأمر إلى بعض نقاط الضوء المكثفة، المدهشة شعريًّا، بعيدًا عن منطق التصنيف المجاني الفضفاض.
إن منطق التصنيف قاصر فعلاً بكل المقاييس، ويكفي أن نثبت ذلك ببعض التساؤلات البسيطة: هل عماد غزالي شاعر ثمانيني أم تسعيني؟ وهل هو شاعر قصيدة نثر أم شاعر عمودي؟! هل يمكن الجمع بين حلمي سالم وأحمد الشهاوي وعلي منصور في سلة فنية واحدة، لمجرد أنهم التقوا في تجاربهم الجديدة في عدم استخدام التفاعيل، مع أن تجاربهم بعيدة كل البعد عن بعضها البعض، روحًا ونبضًا ورؤية ولغةً وتعبيرًا؟
ليس هناك جيل، ولا تيار نثري موحّد أو جامع للشعراء في مصر، هذه هي الحقيقة العارية. هناك نقاط شعرية قليلة جدًّا، مضيئة لدى بعض الشعراء، في بعض دواوينهم، في بعض قصائدهم، يتعب القارئ حتى يصطادها وسط ركام الطنين والمعارك المفتعلة التي قتلت الشعر.
إن الذين يخلصون للشعر فقط، دون سواه، هم من توجد لديهم بعض قطوف أو ثمرات تأنس إليها الروح، توجد لديهم تجربة تسعى بين الحين والحين إلى تحسس تفردها، والنجاة من الخيوط المجنونة التي تحاول الجمع بين الصالح والطالح في سلة واحدة.
لستُ منتميًا كشاعر إلى صندوق قصيدة النثر الضيق، لأتحدث عن مستقبل هذه القصيدة، فضلاً عن أنني لا أعترف بأساس وحيد شكلاني هو “غياب الإيقاع” لتصنيف شعراء متنافرين فنيًا كل التنافر، فهذا أمر لا يقبله المنطق. ولو أضاف البعض إلى غياب الإيقاع بعض السمات المضمونية والجمالية المحددة لشروط كتابة قصيدة النثر، لزادت المشكلة تعقيدًا، إذ سيصير هناك شعراء ناثرون منبوذون خارج صندوق قصيدة النثر! وعلى وجه العموم، فإن مستقبل الشعر في مصر لا يدعو إلى التفاؤل إذا انطلق من قاعدة الحاضر الضبابية. الجميع للأسف يتحدثون عن الإجراءات والإطارات وحروب الأجيال، يتقاتلون لتمثيل مصر في مهرجانها الشعري الداخلي وفي المهرجانات العالمية، يتجادلون بحماس حول كل شيء، ولا يلتفت أحد إلى الشعر نفسه! لقد حضرت الأشكال الشعرية كلها، وحضر مئات الشعراء، وصدرت آلاف الدواوين، وغاب الشعر نفسه في أغلبية الأحيان!
إن عافية الشعر في مصر، والعالم العربي بصفة عامة، مرهونة ببزوغ شعر رفيع كبير، يتحدث بأبجدية جديدة لها لون وطعم ورائحة العصر، شعر تتصالح فيه الأجيال والتيارات المتناحرة، ويبحر فيه القارئ العادي والمتخصص، فيجد شيئًا من بصمات روحه، ويستشعر نبشًا في أعماقه الإنسانية، ووهجًا في فصوص مخه. شعر يتجاوز التصنيفات المحنطة، والأطر الجامدة، ليفرض هو مذهبيته المرنة على المشهد. شعر ينبني على ما هو فردي خالص، وعلى المشترك الإنساني العميق في قريتنا الكونية، متجاوزًا الطرح العارض الزائل من قضايا سياسية واجتماعية وما شابهها. إن حضور مثل هذا الشعر المغاير، الفارق، المخلخل، هو الأمل في أن يعود النقد الجاد إلى الساحة، ليلعب دوره التنويري الكاشف، الهادف إلى إعادة قراءة النص من جوانياته هو، وفق شروطه وإحداثياته هو، وليس في ضوء قوالب وتعميمات جاهزة، تخنق جدة التجربة، وتحاكمها بالقياس إلى تجارب أخرى.
ـ تحتل الرواية الآن المرتبة الأولى في ساحة الإبداع، وصار الكثير من الشعراء يحلمون بأن يكونوا من كتابها. أولاً هل القول صحيح؟ وثانيًا هل تحلم بأن تكون روائيًّا؟
= إن التصاق الوجدان العربي بالشعر هو التصاق حميم جدًّا، يدعمه إرث عظيم حافل. ربما تحقق للرواية الانتشار الكمي على نطاق أوسع، لكن القصيدة الحية المؤثرة، حينما توجد، تبدو أكثر تغلغلاً في روح قارئها بالتأكيد.
أنا لا أمتلك أن أحلم إلا بما أنا مؤهل له، ولستُ مؤهلاً لكتابة الرواية بالتأكيد، وحلمي الحقيقي أن يعود الشعر خبزًا يوميًّا للقراء، بشرط أن يلغي الشاعر المسافة بينه وبين نفسه في البدء، وبالتالي تذوب المسافة بينه وبين قارئه.
ـ هذه البرامج الجديدة التي نراها على الفضائيات مثل شاعر المليون وأمير الشعراء، ماذا تقدم من فائدة للشعر؟ وهل الشعر يقبل الإمارة والأمراء؟
= الأمر الإيجابي الوحيد في هذا الصدد هو أصل الفكرة المجردة، فكرة أن يتم تخصيص قناة أو ساعات مطولة للشعر. لكن البرامج، والآلية التي تدار بها هذه القنوات، ضربت أصل الفكرة في مقتل، فالذي تقدمه ـ عفوًا تبيعه ـ هذه الفضائيات ليس هو الشعر الطبيعي الحيوي المتشكّل الآن، بل تصورات الجمهور “الجاهزة” المسبقة عن الشعر المكرور، وفقًا لتخطيط تسويقي قائم على بيع ما هو مباع أصلاً، فضلاً عن اجترار الصورة النمطية الهزلية لشاعر القبيلة الإنشادي الشفاهي، المتطلع إلى التصفيق عبر كل تسديدة بلاغية يسددها ببراعة، صوب “الهدف” ـ النبيل بالضرورة ـ الذي يدعي أنه يراه بوضوح أكثر من غيره، بصفته نخبويًّا أو حتى فوق بشري! إنه أمر مثير للسخرية والإحباط في آن واحد أن يفكر البعض في النهوض بالشعر، ورفع ذائقة المتلقي، وربطه مباشرة بالشاعر، عن طريق “تحضير أرواح” النابغة والخنساء وسوق عكاظ معًا! أما “إمارة الشعر” على هذا النحو التليفزيوني الفج، فهي أيضًا من ذيول التصور التقليدي للشاعر المقرب من البلاط، المنعَّم بالأحاظي نظير القيام بدور محدد، المشهود له بالنبوغ من حكام، وجهات عليا، ولجان تحكيم وضعت شروطًا فيزيائية مسبقة للقصائد المرسلة إلى “المسابقة”!
وليس معنى ذلك طبعًا أن الشعراء الحقيقيين لا يتفاوتون في المستوى، لكن انتخاب الشاعر ـ أو الشعراء ـ الأكثر تميزًا في هذه الحياة لابد أن يكون انتخابًا طبيعيًّا شعبيًّا حرًّا، من واقع العلاقة المباشرة بين الشاعر وقرائه، فالشاعر الكبير الحاضر قادر على أن يكون كبيرًا وحاضرًا بكتابته فقط، وبتواصله الدءوب المثمر مع البشر، ومع حركة الحياة من حوله.
ـ كلمة حرة أخيرة؟
= هي مقطع صغير من “غازات ضاحكة” (الجزء الثاني من: الأعمال الكاملة لإنسان آلي):
“الغريبُ،
الذي يعبرُ الطريقَ
ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاءَ
ولا كلبٍ مدرّبٍ ..
هو بحاجةٍ إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ،
تتسعُ لغرباء”
يُذكر أن الشاعر شريف الشافعي من مواليد مدينة منوف بدلتا مصر عام 1972، وله ثلاثة دواوين شعرية قبل “الأعمال الكاملة لإنسان آلي” (2008)، هي: “بينهما يَصْدَأُ الوقتُ”, 1994, سلسلة “كتاب إيقاعات الإبداعي”، و”وَحْدَهُ يستمعُ إلى كونشرتو الكيمياء”, 1996, الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة, و”الألوانُ ترتعدُ بشراهَةٍ”, 1999, الذي صدر في أكثر من ألف صفحة عن “مركز الحضارة العربية” بالقاهرة، كما صدر له أيضًا كتاب بحثيٌّ بعنوان “نجيب محفوظ: المكان الشعبيّ في رواياته بين الواقع والإبداع” عن الدار المصرية اللبنانية عام 2006.
من الكتب النقدية التي تناولت أعمال الشافعي الإبداعية: “العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي”، للدكتور محمد فكري الجزار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، و”معرفية النص” للدكتور وائل غالي شكري، دار الثقافة للنشر، القاهرة، 1998، و”تحولات الشعرية العربية”، للدكتور صلاح فضل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002. ومن أبرز النقاد والكتّاب الآخرين الذين تناولوا أعماله بالنقد والتحليل: د.محمد عبد المطلب، د.جورج جحا، خيري شلبي، د.مجدي توفيق، د.أمجد ريان، أحمد دحبور، بهيج إسماعيل، د.ماهر شفيق فريد، د.صلاح الدين فاروق، د.حمزة رستناوي، سليم بوفنداسة، عبد المنعم الشنتوف، بهاء جاهين، د.عادل بدر، وغيرهم. والشافعي عضو في اتحاد كتاب مصر، وفي نقابة الصحفيين المصريين، وفي منتدى الكتاب العربي على الإنترنت في سويسرا، وله صفحة شخصية باسمه في المنتدى، فضلاً عن موقعه الإلكتروني الخاص على شبكة الإنترنت. يعمل الشافعي صحفيًّا في مؤسسة الأهرام بالقاهرة منذ عام 1996، وسكرتير تحرير مجلة “نصف الدنيا” الأسبوعية، وقد حصل على إجازة في فبراير 2007، منتقلاً إلى مدينة الْخُبَر السعودية، التي يقيم فيها حاليًا، حيث يُسْهِمُ في إصدار المجلات والمطبوعات الطبية الخاصة بإحدى المؤسسات الكبرى.
————————
(*) بسام الطعان، كاتب وصحافي سوري