قراءة في رواية “اســأل الغبـار” لـ جون فانتي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

دعد ديب*


الغبار الذي يلف الوجوه المتعبة والكالحة، الأثاث، المقاعد، المقاهي والطرقات... يتصاعد من رواية اسأل الغبار للكاتب الأميركي ذو الأصول الايطالية جون فانتي - ترجمة أماني لازار - منشورات دار أثر 2015، التي تعتبر من كلاسيكيات الأدب الأميركي، لتتسربل شخوص العمل به من رأسها حتى القدم، كهوية انتماء الى القاع الاجتماعي بخيباته وأحلامه، بؤسه وسقمه، مرارته وسخريته، من واقع قاس لما يزل يطحن الفرد الأعزل في صراعه واستمرار وجوده ضمن ازدواجية الألم والفكاهة، حسب تعبير تشارلز بوكوفسكي، الذي قدّم للرواية، وكان لها التأثير الكبير على مجمل أعماله لاحقاً.

وإن كانت رواية “اسأل الغبار” تندرج ضمن أدب السيرة الذاتية، كونها تتحدث عن الكاتب “أرتورو بانديني” الذي يعاني من أزمة مزدوجة، تتمثل بعجزه عن إنجاز مشروعه الكتابي وعن إيجاد فكرة وموضوع لروايته، ما يقوده إلى الأزمة التالية، وهي العجز عن مستلزمات الحياة، أجور السكن والمأكل في مدينة كبيرة مثل لوس انجليس إبان أزمة الكساد الاقتصادي عام 1939، المدينة الحلم، وهو الآتي من كولورادو، ليدخل بنا إلى البيئة الاجتماعية للواقع حوله عبر تفكيك بنيتها الطبقية المبنية على عالم التناقضات والفوارق، حيث الدخان والغبار والأوساخ وملامح الحياة الوضيعة، إضافة إلى التمييز العنصري، ليس بين البيض والسود هنا، أو الأميركي وغيره، وإنما بين الأميركي والأميركي المتحدر من أصول أخرى: إيطالية أو مكسيكية… هذا التمييز الذي يلحظ في أغلب مفاصل الحياة من تعليقات صاحبة الفندق ورفضها حجز مكان للمكسيكيين وسواها، من نمط اللباس او امتلاك مضارب الغولف، ربطات العنق، القبعات، قميص البولو ذو المربعات مع النظارات الشمسية… هذا المظهر كله -حسب تعبير البطل بانديتي- يحميك من تهمة التشرد لدى شرطة لوس انجليس، لارتقائك بالسلم الاجتماعي أما الغبار على حذائك فهو التهمة الثابتة التي تتلبسك بالجرم المشهود، ألا وهو الفقر والدونية الاجتماعية
العقدة الطبقية

بانديني، بضغط من ذكريات ماض كان فيه مضطهدا من رفاق طفولته سميث وباركر وجونز للفوارق الطبقية، يعاود انتاج عقدته الطبقية بالدونية التي يعامل بها الانسانة التي عشقها عندما يعيّرها بحذائها المهترىء ووصفه اياها بالمزيتة. حالات مركّبة تعاود تدوير ذاتها ضمن صراعات داخلية عبر تبادل الحب مع الكراهية، المضطَهَد يِضطهِد… بانديتي يحب كاميلا، كاميلا لا تحبه، تحب سامي، سامي لايحبها، وانما يحترم قيمة الكاتب في بانديتي… هيلفريك الذي يسرق العجل لتضوره على اشتهاء اكل اللحومات المشوية، يعود ليقنعه بسرقة الحليب كتعويض عن دفع ديونه المؤجلة له
بانديني، الذي يضعف نفسياً بفعل الجوع، ينزل السائل المخيض مراً الى معدته لاضطرابه الناجم عن رفضه الداخلي للفعل. بالنهاية كلها شخصيات تنوس حول ازماتها المرهقة بأمنيات لاتحقق… شخصيات ملقاة على رصيف الحياة البائسة والطاحونة الضخمة التي تجرف الجميع بضجيجها المرعب، منها من ينتظر الموت ومنها من يضيع يائسا ًوحيداً، ومنها من يقبع مسائلاً، ومنتظرا املاً لا يأتي أبدا

بانديني بحسرته المرة لعدم استطاعته مرافقة امرأة جميلة مثل ذات الفراء، فراء الثعلب الفضي، إلا في خيالاته المستيقظة، محققاً أحلامه ضمن أوهام العظمة بتَبَوُّؤ مركز الكاتب الكبير الذي يطلب وده الجميع وغناه الأسطوري، في محاكاة ساخرة بين ما يحلم به وبين الواقع، بين خيالاته بالوصول لجائزة نوبل ونصائحه إلى الجيل الشاب باقتحام الحياة وعيشها، وهو العاجز عن ليلة حب نظراً لاحاسيسه المركّبة في مفاهيم الطهرانية بين من يبيع جسده وبين من يبيع عقله .
الكوميديا السوداء

وعلى الرغم من نجاحه بداية في قصة ضحك الجرو، إلا أنه يعتبرها فشلاً حياتياً ضمن مونولوغ داخلي لعدم استطاعته أن ينجح بعلاقة طبيعية مع امرأة هو المثقل بوزر الوصايا العشر، زاجراً ذاته لتكتب قصة حب، عليك ان تعرف الحياة ، بسرد متقن ومحكم، هو أشبه ما يكون بالكوميديا السوداء لجهة قتامة الواقع واللغة التهكمية والمعبرة عن الألم الدفين، في قالب ساخر مبيناً بؤس كل شيء وحماقة كل شيء ضمن عبثية الكاتب الميؤوس منه


بانديني يرفع احتجاجه الى السماء على الظلم والشوه الذي لحق بشخصية فيرا المرأة المعذبة بالوحدة وفقدان المحبين لجرح أصاب أعضاءها الأنثوية… فيرا كانت نجاة لروحه الأخرى الهائمة مرتين، مرة عندما يزورها، مقنعا إياها بأنها مرغوبة، وهناك من يحبها ويسأل عنها، ومرة عندما يصوغ قصتها في العزلة والنكران عملاً أدبيا يأخذ طريقه إلى النجاح بإشارة ضمنية الى الراحة والاطمئنان التي يحياها المرء بالعطاء وبذل الخير للآخرين، وقد تأكد ذلك عبر نشاطه بإنقاذ ضحايا الزلزال بصباح الليلة التي أمضاها مع فيرا

صدر لجون فانتي انتظر حتى الربيع يا بانديني عام1938، الطريق الى لوس انجليس نشرت عام 1985، أحلام من بنكر هيل 1982، داغو الأحمر.. قصص قصيرة. وقد حُوّلَت اسأل الغبار إلى فيلم سينمائي بالاسم ذاته، من بطولة سلمى الحايك وكولن فاريل. وقد أصيب فانتي بمرض السكري بآخر أيامه واثر عليه بفقد البصر… وكتب روايته الأخيرة أحلام من بنكر هيل، وهو يمليها على زوجته جويس


“اسأل الغبار” عمل ارتقى بلغته وعوالم شخصياته المرسومة بدقة، ذات عمق إنساني، إضافة للمحاور الفكرية التي استند عليها ليكون في صدارة الأعمال الأدبية المهمة المترجمة، والتي حافظت على تناغم اسلوبها وسلاسة تراكيبها رغم ماتفقده الآثار الفكرية من نبض وحرارة أثناء نقلها من لغة إلى أخرى .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن جريدة الأنوار اللبنانية

* ناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم