الحب من منظور واقعي مُدْهِش

الحب من منظور واقعي مُدْهِش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

توصيل الرسالة بملمح خاص سمة مميزة من سمات (أمينة عبد الله)، فهي لديها القدرة على تحويل الكلمات من حبر على الورق، إلى احاسيس ومشاعر تدخل عبر نافذة القراءة إلى أعماق الوجدان، ليجد الإنسان نفسه أمام مجموعة من الذكريات التي تنهال عليه، ودون أن يشعر يتحول لخصم وقاضي في قضية الإنسانية الأبدية: «الحب»، كيف نحب؟ لماذا نحب؟ من نحب؟ ثلاثة أسئلة تدور حولهما كتابات (أمينة) متحلية بجرأة المواجهة مع الرؤية الذكورية الشرقية للمرأة، وللحب، متسلحة بالصورة المبتكرة، الصورة القائمة على إدهاش العقل في تشكيلها من ناحية، وفيما تثيره من سؤال أو حكمة من ناحية أخرى، واستخدامها للعامية في هذا الاطار، هو استخدام يعمل على توصيل الصعب والعميق، عبر اليسير والبسيط.

تقول في افتتاحية ديوانها «بروفة جنرال لدخول الجنة»:

«نحن نصنع الذين نحبهم

ونضعهم في المكان اللائق بحبنا لهم

لا المكان المناسب لهم»

هذه الموضعة منذ البداية لسحب القيمة من المحبوب إلى المُحِب، ولتهيئة الوصف الأسطوري للمحبوب بوصفه ليس ذلك الكائن الموجود في الحقيقة والواقع، وإنما ذلك الموجود في خيالنا، لتقوم هنا بقلب للمعتاد في الموروث العربي عن الحب، حيث دأبنا على التغزل في المحبوب أو المحبوبة الواقعية بما هو تفضيلي عن باقي البشر باعتبار ذلك يمنحه/ يمنحها ميزة عن باقي البشر، فيصبح وجه المحبوب دون غيره مثل القمر، لكن هنا تأكيد منذ البداية على أن ذلك الوصف الأسطوري الموجود للمحبوب ليس لبشر في الواقع، وإنما لطيف عن صورة المحبوب في الخيال، وليس شرطا أن يكون المحبوب الموصوف هنا يستحق هذه الصفات بل الأكيد أنه لا يستحقها، وما هذه الصفات الأسطورية إلا انعكاس رؤيتنا وأحلامنا على الشخص الذي نعتقد من وجهة نظرنا أنه يستحق أن نحبه.

هذه المحاولة لتقديم نص واقعي عن شيء غير واقعي، أقصد فهم أبعاد الحب الذي بطبيعته ينافي الواقعية والمنطق، بمنظور أكثر منطقية عن المعتاد، وهذه الواقعية لشيء غير واقعي إحدى سمات (أمينة عبد الله) في كتاباتها عن الحب، ولعل هذه الواقعية، وهذه المحاولة للخروج عن أسر الرومانسية المحلقة إلى مشكلات متغيرات الحب في أرض الواقع ذلك ما جعلها تبدأ قصائدها بنص يُوَطِّن للرحيل، وللبعد عن المحبوب، تقول في أولى قصائدها داخل ديوانها:

                                                                 باى …….باى

                                مليت

                                    أحتفظ بحاجات ما لهاش معنى إلا عندي

                                                    الشعرة اللى دايما بتطلع ناحية كتفك اليمين

                                                       ورق الشيكولاتة، تذاكر الباص، ورق أزايز البيرة .

                                مليت

                                       والحاجات فقدت بريقها

                                                      لما إتحولت عادة.

                                    

ولعلنا نلاحظ التشكل الكتابي، الذي يتخذ شكل المنحنيات المستمرة، وهو ما يتناسب مع منحنيات التعبير داخل النص، فبينما النص هو للرحيل والبعد عن المحبوب، نجد أن الصور التي تصف مقدار عمق العلاقة وأثرها على النفس صور شديدة التأثير، فما أصيبت به الشاعرة في قصيدتها من رغبة هجران هذه العلاقة، يتنافى مع عمق التعبير عنها، وكأننا إزاء حالة من حالات الصراع الداخلي حول الاستمرار/الانسحاب من علاقة الحب، تلك الحالة التي تصل مداها مع الصورة التالية:

«هوسى بتفاصيل تميّز علاقتنا

                                          وقعنى ف تكرار طقوسى ف حبك»،

قمة التعبير عن التناقض بين التميز، والتكراري، بين ما قد نعتقد في لحظة أنه فريد من نوعه، ثم شعورنا في لحظة تالية أنه عادي، وتختم المفارقة بانتصار الإرادة في ترك الحب، تقول الشاعرة:

أنا بأحب

                                          إرادتى تبقى صاحية

                                                   حتى وأنا باخبط راسى ف الحيط

                                                      باى …..باى .

 أليست الحياة البشرية بأكملها خليط من هذا التناقض، البحث عن المتميز، ثم الركون للعادية، ثم محاولة الخروج عن المألوف، ورغم صغر المدة التي يقضيها الانسان على الأرض، إلا أن ما يبذله من عمل في أشياء روتينية تصيبه بالملل كثيرة، هل هناك في الحب ملل؟ بالتأكيد، وربما أكبر ملل هو تكرار محاولة معرفة ما الحب؟ لطالما تم طرح هذا السؤال في الفلسفة والأديان والأنثروبولوجيا، حتى في علوم الكيمياء والتشريح، ولم نصل لإجابة وافية حول الحب، لكن (أمينة عبد الله) عندها اجاباتها الخاصة، وتحليلها للمشاعر الذي تنقله بيسر وعمق في المقطع التالي:

بأقوم

 سقعانة كل يوم

من احساسي بالحتة اللي بتفضى

ف قلبي

كل ما احلم حلم

انت مش فيه

لعل ظاهرة التقارب والتباعد، التجاذب والتنافر، بقصائد متتالية، أحدها يتحدث عن قرب المحبوب والرغبة فيه، والآخر يتحدث عن هجرانه والبعد عنه، هي سمة متكررة على مدى قصائد الديوان، وبأسلوب التعبير المفارق، سنرصد مثال لذلك في قصيدتين متتاليتين – وعلينا ألا ننسى أن السطر الواحد قد يكون قصيدة كاملة عند (أمينة عبد الله):

فراقك

مش أول الأحزان

بس من حقي

يكون آخرها

ليأتي النص التالي لذلك مباشرة فيقول:

بأمارس الشعائر المعتادة في الحب

بشوية اتقان

هكذا الأمر يمضي ما بين الابداع في التواصل مع المحبوب، والتأكيد على قيمة الحب، ثم التفاني في اخراج الحب من القلب، والتأكيد على قيمة الذات وحقها اتخاذ قرارتها، وحقها في تقرير مصيرها، يبدو أن (أمينة) ترفض ذلك النوع من الحب الذي يفقد الانسان قدرته على اتخاذ  قراراته، على عكس الموروث العربي الذي دائما ما ينظر للحب على أنه مرحلة من مراحل فقدان التحكم والسيطرة على الذات، حتى يصل في بعض الأوقات إلى «الجنون»، وفقدان العقل، لكن النقيض من ذلك عند (أمينة)، التي تؤكد على حالة مساءلة الحب، والبحث عن أعراضه، وعن مشاعره، فهو ليس بالشيء الذي يمكن أن نتفنن في تقنينه وتحديده وتفصيله على نحو واضح بين، بل ربما جاذبيته وطعمه الخاص في غموضه، في عدم قدرة الانسان ذاته على معرفة ما إذا كان واقعا تحت تأثير الحب من عدمه، هذا المعنى تثيره القصيدة التالية:

هو أنا

        لما كنت بأفرح ساعة ما أشوفك

        وأضحك ساعة ما تمشي

                لوحدي

        وما أرضاش أغسل يدي مكان سلامك

                كنت بحبك؟

لا تستخدم (امينة) الإيقاع التقليدي من جناس وقافية رغم الأفق الذي تتيحه العامية في ذلك، لتستخدم بدلا منها مفارقة الفكرة، النهاية التي تأتي دائما في القصيدة مخالفة للتوقع، وطرح الأمر بجرأة ومن منظور داخلي لأنثى تبحث عن تحليل للحب بعين الواقعية قدر الإمكان، إننا نواجه قصيدة تشبه «قصيدة نثر عامية»، أكثر من «قصيدة التفعيلة العامية»، هذا إن جاز استخدام المصطلحين، فرغم كل الميراث الذي نملكه من شعر العامية، إلا أننا لا نملك تنظيرا نقديا موازيا، ولم تقم حتى الان دراسات تجريبية توفر رصيدا تنظيريا يُمَكِّن الناقد من التعامل مع النصوص العامية، خاصة تلك النصوص ذات العمق، فالبناء الصوتي والصرفي ذاته للعامية المصرية، لم يلق الدراسة الكافية، فضلا عن امتلاك مصر أكثر من لهجة عامية، فهناك القاهرية، والإسكندرية والصعيدية والبدوية وأخيرا النوبية، ورغم النشأة السكندرية لـ(أمينة عبد الله)، إلا أن أغلب استخدامها للعامية هي العامية القاهرية الشائعة التي يمكن قبولها في مختلف أنحاء مصر، لكن المشكلة التي تواجه العامية كانت وما تزال أنها تتأثر بطريقة الإلقاء، فقد يختلف المعنى والبنية تماما عند الإلقاء، فنص مثل التالي:

اللي حصل بيني وبينك

ف الاسانسير

بروفة لدخول الجنة

ولا مقدمة للخروج منها ؟!

في المستوى الحيادي يمكن فهم النص على أنه طرح لتخوف العاشقة على مستقبل العلاقة بينها وبين المحبوب، هل ستستمر بينهما علاقة الحب بعدما وصلا لمرحلة ضمنية من مراحل التواصل الجسدي – بقدر ما تسمح فترة إقامة في الاسانسير – أم أنها نهاية لهذا التواصل؟ ومن ثم يصبح السؤال الأساسي: هل هذا المحبوب بالفعل عاشق؟ أم راغب في الحصول على شيء ما ويمضي؟ كل هذه المعاني المتاحة على مستوى تحليل النص في تشكله الكتابي، بينما الأمر سيختلف كثيرا في حالة إلقاء النص، ففي حالة القاء القصيدة فإن النبر والضغط على المقطعين الأخيرين يحددان الكثير، فلو تم التأكيد على «بروفة لدخول الجنة»، يصبح المعنى استحسان لما حدث في الاسانسير، والتساؤل الأخير يؤدي دور التخوف من عدم استمرار التواصل من المستقبل، والتخوف من وقوف المجتمع ضد هذا الحياة المستقبلية، فليس لدى المحبوب هنا أية نية للرحيل، بينما لو حدث العكس، أي التأكيد على المقطع الأخير، فإن النص هنا يعكس تشككا وتساؤلا جوهريا حول نية وطبيعة ومدى استحقاق المحبوب لكي تهتم به الذات العاشقة.

في هذا الديوان تقدم لنا النصوص نفسها بوصفها توثيقا لمشاهدات ترصد وتحلل طبيعة التواصل الإنساني في علاقة التقارب بين الرجل والمرأة، الولد والبنت، الذكر والأنثى، فمثلا في قصيدة «عشان حرام»، ولعلنا هنا نلاحظ أن بعض القصائد تأتي بدون عناوين، وأخرى تأتي بعناوين، لكن في حالتنا هنا «عشان حرام» يحمل العنوان أكثر من معنى محتمل، الحرام قد يكون هو ما يخطط له الولد في الحصول عليه من محبوبته عبر تدرجه في محاولة تقبيلها في نهار رمضان، أو الحرام في قيام الولد بعدم الصوم، عامة اللعب على المعاني الكثيرة المحتملة هي من سمات النصوص الشعرية، لكن (امينة عبد الله) ترسم لوحة تحليلية على النحو التالي:

عشان حرام

البنت

       اعتبرته مجنون

                         عشان ما بيصومش

                                        وبيحاول يدوقها حلاوة أول بوسة

                                        بتمرين متعدد المراحل

                                        ومتقن التخطيط

ومثلما يحاول هذا العاشق أن يتدرج في محاولة تقربه من محبوبته لكي يحصل منها على القبلة/المحرمة، فإن النص جاء بهذا التشكل التدرجي من الكتابة، لكن الشاعرة تقف تماما ضد الخداع في الحب، وضد الانخداع باسمه، وهنا نستطيع أن نفهم أن الحرام الأساسي الذي تقصده هو تحريم الضحك على الآخر باسم الحب، تصف في النهاية الفعل الذي قام به ذلك المدعي للحب:

تنبهر بجرأة حبيبها

      وشهوة الشجاعة

          وتسلم نمر

             ويسلم هو عليها بعد

                ما يركبها الميكروباص

من الفلوس اللي استلفها منها

ويتف من قلبه

   ع اليوم اللي شافها فيه

ولعلنا نلاحظ تعبير «وتسلم نمر»، فـ(أمينة) تستعين بما هو عامي ودارج، من أجل توضيح ما هو عميق، رغم أن الفكرة أخلاقية بامتياز – التحذير من التلاعب باسم الحب، ومن الوقوع في الخطأ والحرام تحت وطأة الانبهار بشجاعة زائفة، وبمشاعر زائفة، لكن لا مجال للحديث عن هذه الأفكار بألفاظ معقدة، بل بمنته الواقعية بما قد يستخدمه من يقعون تحت وطأة هذا الفعل، لكن لا يمكن القول أن هناك حالة ثابتة من الرؤية الأخلاقية واضحة، ربما لأن طبيعة الحب هي التناقض، والجمع بين كل شيء ونقيضه، فإن النصوص تأتي متذبذبة، بينما كان النص السابق يحذر من قبلة حرام، سبب حرمتها زيف المشاعر، يتحدث نص أخر عن تفضيل بين القُبَل، لكن هذه المرة يبدو أنها قُبَل صادقة المشاعر، تقول:

البوسة الخطف في شارع زحمة

أجمل قوي

   من اللي ف شارع  ضلمة

الزحمة

  بتدي خصوصية

أما البوسة في شارع ضلمة

      حاجة مجانية

وهكذا في إطار من محاولات استكناه وفهم تأثير الحب على الذات البشرية، وتأثير الذات البشرية على الحب، وفي نوع من المفارقة التي تميل للرصد الواقعي، والغوص في أعماق الذات عبر مواجهتها بما قد تحاول أن تخفيه عن نفسها، طفنا في قراءة هذا الديوان عبر رؤية تحاول أن تفهم «الحب»، والبشر في تعبيراتهم ومشاعرهم عن هذا الحب، رؤية لها خصوصية أنثوية تتحول فيها (أمينة عبد الله) إلى مراقبة عليمة بأحوال المحبين بمختلف درجاتهم ونياتهم الصادقة منها والكاذبة، وتُقَدِّم في ذلك تحليلاتها بدون خوف من الصدام مع الرؤية الجاهزة المسبقة، سواء تلك الموجودة في التراث العربي، أو الموجودة في العقلية الشرقية للرجل المصري، ويبقى الديوان قابل للعديد من القراءات والرؤى بقدر ما يستطيع كل قارئ أن يرى في الديوان من معاني مختلفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الديوان صدر عن دار «الأدهم» للنشر والتوزيع – 2014

مقالات من نفس القسم