بيضة على الشاطئ .. السعي الدائم نحو التجريب

بيضة على الشاطئ .. السعي الدائم نحو التجريب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شوقي عبد الحميد يحيى

ليس من المتصور أن يضع كاتب مبدع ومراوغ، ك"شريف صالح" قصته "الغواية الأولي" في صدر مجموعته "بيضة علي الشاطئ" مصادفة، أو مجانية.

فالمتأمل لأشعة وظلال العنوان الرئيس للمجموعة، سيقف بالضرورة علي إيحاءات كل من "البيضة" و "الشاطئ" . فإذا كانت البيضة هي الجدار العازل والحامي للجنين، مجهول الهوية، فإنها تفتح الأفق واسعا حول ما يمكن أن يتشكل عليه ذلك الجنين والمجهول الكامن والساكن، أمام ذلك التيار والسريان والاندفاع غير المعلوم أيضا، لذلك التيار من المياه الساري داخل ذلك "الشاطئ" كتيار الحياة السائر في تؤدة حينا، وفي اندفاع حينا آخر، وإن كنا نعلم أين المصب، فإننا لا نعلم ما هو المصير بعد المصب، ولا ما هو المصير في السريان.

 

ومن هنا تأتي قراءة أولي قصص المجموعة، قصة “الغواية الأولي” والتي يمارس فيها شريف صالح، لعبته القصصية المحببة، لعبة التخفي، الذي قد يبدو مُلغِزا، في البداية. غير أن تأمل القصة والبحث عن مفاتيحها التي يسربها شريف، داخل السرد العادي، لتبدو كالعادي، تفتح آفاق الرؤية أمام القارئ، لتدخله في عالم أوسع من حدود القصة القصيرة، فضلا عن متعة القراءة التي يغلف بها رؤيته، ليتكشف العادي، عن البعيد والأوسع. ليمنح القصة القصيرة عناصر بقائها، مقاومة لكل تيار زاعم بمواكبة روح العصر، فيما يُظن أنه السريع، والخاطف، وغير القابل للتفاصيل.

ففي “الغواية الأولي” يقف السارد في مفترق الطرق، بين ماض، كان يحمل البراءة، والانطلاق، ومستقبل، يحمل الخوف من المجهول. اختار لها شريف ببراعة لحظة جد حيوية، وجد موحية، هي لحظة تعرض الزوجة لنزيف يهدد بضياع الجنين، يهدد بكسر البيضة، حيث انفصل جدار المشيمة حوالي 45 مللي. وهنا يرسم شريف صالح، معالم سارده (الإنسانية) وقلقه الإنساني علي ضياع الجنين الذي ظل هو وزوجته يحلمان به ويرسمان الخطط المستقبلية له، ليأتي ذلك الانزياح اللامتناهي في الصغر(45 مللي)، ليزرع القلق والخوف، ويقف به السارد علي الحد الفاصل بين الماضي والحنين إليه، والمستقبل المجهول الذي يحمله السارد في كيس بلاستيكي أسود، ليدفنه في (البر الغربي)، الذي يدفع بالتصور والإيحاء ما يمثله البر الغربي في المخيلة المصرية الفرعونية. وما يعنيه من انتقال إلى العالم (المظلم) عالم المجهول، عالم الموت.

يستعيد السارد لحظات الفرح الطفولية:

{أقذف بعنف الكائن الذي لم يكتمل. أستعيد لحظة فرح طفولية قديمة. عندما كنا نقف مع رفاق الطفولة فوق الكوبري الحديد ونقذف بأشيائنا الصغيرة في مجري النهر. نتأملها بفرح وهي تطفو قليلا ثم تغرق! ربما نحاول أن نستبقيها لمرة أخيرة في الذاكرة، كي نستعيد صورتها كلما رغبنا. كنت أجري علي الشاطئ فرحا بالماء، النسمة المنعشة، خضرة الحقول الشاسعة، أليس كل ما يعز علينا، شئنا أم أبينا، نلقيه في نهر النسيان؟!}….. ذلك ما كان … ثم تأتي لحظة التأمل .. في الحاضر…{ لكن شعور الفرح النزق يتبدل إلي أسى وصمت .. ليس سهلا الشعور بأن الشئ الذي كان معي قبل دقيقة واحدة، حتى لو كان تافها، قد ضاع إلي الأبد. هل سأستعيده مرة أخرى أم لا! مثل ومضة تلمع في داخلنا للحظة ثم نعجز عن استعادتها إلى الأبد}.ص15. و { كل اشيائي الأولى أصبحت بعيدة وغائمة.. مهزوزة في مرآة الوجود الذي لم يعد موجودا ..}ص21. 

فبين الماضي والمستقبل، يكون الحاضر، الحاضر المليء بتلك البطون المليئة لإناث كثر، وكأنها سيل تيار الحياة الساعية أبدا نحو المستقبل الغامض المجهول، ذلك الحاضر المتشبث بالحياة، رغم المعاناة وفقدان أسباب الحياة:

{ألعن في سري صور الإعلانات الكبيرة التي تحيط بي في كل ممر أذهب إليه. تبييض الأسنان، التخلص من الشعر الزائد، وداعا للنظارة الطبية..}.

ثم يحل المستقبل حاضرا في صورة فانتازية، فالمستقبل مجهول ولا يمكن تصويره إلا في تلك الصورة، حيث يري السارد مجموعة من الغزلان تثير السؤال الوجودي:

{ لماذا تسير الغزلان الحوامل وحدها مع النهر؟!} حيث يسير المستقبل في سريان نهر الحياة{ كل غزالة تحمل حلمها في أحشائها وتسير حسب القدر المرسوم. أَمرُ مخترقا قطيع الغزلان السائر علي إيقاع الأبدية باتجاه البر الغربي. هناك خلف الجبل المائل إلي الحمرة، يخايلني وجه الله بين السحاب كأنه يبارك سرب الغزلان..}. ثم يفتح لنا شريف باب المصير الأبدي الذي نسير إليه، شئنا أم أبينا{ لست بحاجة إلي فتح مقابر العائلة، سأدفنه هناك في الساحة الترابية بين الجبل والمقابر}.

ثم يضعنا السارد في اللحظة المتأزمة، عندما يواجه الإنسان مصيره. ويواجه قلقه الإنساني:

{لا أعرف هل كانت النقطة الأولي أفضل أم آخر نقطة وصلت إليها؟!}ص21.

وهنا نتبين أن شريف صالح، يضعنا في “الغواية الأولي”، غواية الحياة، في لحظة فوارة وقلقة، جديرة بفعل القصة القصيرة، بين ماض ومستقبل، ليصور لنا الحياة الكاملة في قصة قصيرة تحمل الرؤية، وتحمل المتعة، وتحمل العمق، وتحمل كل عناصر القصة القصيرة.

وقد تتفق قصة “تجشؤ” مع قصة “الغواية الأولي” في تلك النظرة الشاملة للرؤى الكلية، الشاملة للكون، أو الشاملة للإنسان ووجوده وصراعه في الحياة. يبلورها “شريف” في برشامة القصة القصيرة المترامية، شديدة الاتساع. وإن اختفت فيها (الحدوتة) فلا نستطيع تلمس خط معين، وإنما هي حالة الإنسان الذي يطارده الشيطان ليوسوس له. أينما كان. في الهَرَم أو في وسط البلد أو في مدينة نصر.

وبالطبع يحاول “شريف” ألا يكون مباشرا. فمن بين عديد أشكال الوصف لذلك الكائن الغامض المتحكم، يورد ذلك الوصف الملغز، لتتعثر بوصلة الرؤيا لدي القارئ ويتحير عمن يكون ذلك الكائن. أهو الشيطان، أم القدر الغامض {كائن سري يعُد عليك أنفاسك، يعرف فيم تفكر قبل أن تفكر فيه. مهما هززت رأسك أسفا وضربت جبهتك العريضة أو حتى نفضت كتفيك في الهواء غير مبال بشئ. لن يطلعك علي سر اخضرار مؤشر البورصة ولا كيف تنهار رغم توقعات الصعود.. المؤشر لعبة صغيرة بين أصابعه يحركها لأعلي وأسفل كما يحلو له ولا تملك إلا أن تبحلق بعينيك في الفراغ وذهول الدهشة}.

إلا أن “شريف” لازال يخشى على قارئه، فزاده إيضاحا بذلك الهامش الذي يزرع الإنسان (المُخَاطَبْ) في قلب الحياة عبر مسيرة حياته.

وإذا كانت قصة “تجشؤ” تتفق مع ال ق.ق.ج. في غياب الخط الدرامي، واعتمادها علي الرؤية العامة، أو النظرة الكلية. إلا أن الحوار المتخيل، ولعبة شد القارئ للبحث عن تلك الشخصية الغامضة وراء السرد السهل السلس، والحركة الحاملة للخيال، والتي تسير به بين الأماكن والأزمنة. ما يخرج به عن نطاق ال ق.ق.ج. وليس المساحة الكتابية وحدها. إذ أن كل ذلك يصنع الدهشة، ويصنع المتعة، المفتقدة في ال ق.ق.ج.

وفي ثاني قصص المجموعة نقرأ قصة “ألعاب الراعي” حيث يصور حركة الإنسان على الأرض، في سؤاله الأبدي، الذي يبدأ من الطفولة، ويظل الإنسان فيه طفلا يبحث عمن يحركه. ذلك الذي يراه، ولا يراه. يحير الطفل أن (الراعي) الذي يطير في السماء، ولم يتمكن من رؤية لون عينيه، يضع اللعب للأطفال تحت المخدات، وأمام عتبات البيوت، بينما لا يشفي أمه المريضة، الراقدة بالمرض في بيت شديد الفقر. كل امنية الطفل، لا عروسة يعبث بها، ولكن، أن يشفي الراعي أمه { فقط أن يعالج أمي من السخونة والسعال وبصق الدم. أليس علاج أمي أسهل من الطيران بين السحاب والمشي فوق الماء؟!}. وينجح شريف في تجسيد جوهر الإنسان، والإيمان، عندما يكون في مشكلة، أو احتياج. يتجسد له الله، لا بعينه ولكن بقلبه. فالراعي لا يراه أحد سوى هذا الطفل/ الإنسان {معقول ، علي بن بدر وشلبية وجدتي أم السعد وفاطمة وكل أهل البلد عميان وأنا وحدي الذي أراه؟!}.

وأيضا ينجح في تصوير ضآلة الإنسان وقلة حيلته، عندما لا يملك لنفسه من أمره شيئا{ هو لن يظهر حسب مزاجي، ولا كلما احتجت إليه استجاب لي. فقط وقتما يريد، قد يتنكر في هيئة راعي غنم أو تاجر أبقار أو يمضي على الطريق مثل شحاذ أعور دون أن ينتبه إليه أحد}.  وهنا يعرج بنا شريف إلى نوع المرض الذي يعنيه، إنه ليس المرض الجسماني، رغم ما تعانيه أمه، ولا المرض النفسي الذي يعاني منه “الشيخ حسن” المجنون الذي يجوب البلدة حافيا، ولكنه المرض الاجتماعي، مرض المجتمع الذي فيه يسرق اللصوص  ثلاث شجرات الموز الموجودة في البلد، حتى قبل أن يصفر الموز. والذي يعيش فيه أسرة في {صالة بيتنا كانت ضيقة جدا مثل ثقب، تنتشر فيها رائحة المرض وأسراب ذباب أسود طنان. بالكاد تدخلها أشعة الشمس}. ثم يفجر – شريف – المفارقة، بين الواقع والخيال ليكمل{الراديو في صندوقه الخشبي فوق رف صغير خلف باب الصالة، وكان عبد الوهاب يغني رغم الخرفشة “محلاها عيشة الفلاح”}. ولنلاحظ مرة أخري (رغم الخرفشة – محلاها عيشة الفلاح). حيث تزيد (رغم الخرفشة) من شدة البؤس، وحتى لا يعطي القارئ الفرصة للجيران الذين يتلصصون عليهم، أن يجدوا فرصة للحسد. ظنا أنهم يملكون (راديو).

ويسعى الطفل للخروج من دائرة الفقر التي يعانيها. فيسعى لركوب القطار (الذي لا يتوقف في قريتهم)، عندما يهدئ من سرعته في محطة بلدتهم. وإشارة صغيرة يبثها شريف في الثنايا، لكنها جد موحية ودالة. حيث يقف الطفل علي رصيف المحطة العالي، فيرى بيوت القرية صغيرة. ليتجسد حجم القرية، أو حجم ما يعيشه أهلها، أو كيف تبدو في عين راكبي القطار، الذي لا يقف على محطتهم.

غير أن طفلنا عندما يقرر أن يركب القطار، أو يغادر تلك الحياة، بحثا عن حياة أفضل، يخرج له صوت الجدة أم السعد، وكأنه صوت الغيب، أو الصوت القادم من عمق القرية، تناديه أن يعود. “ارجع يا بني” وكأنه مشدود أو مربوط بهذا الواقع المعيش، ولا سبيل للخروج منه.

يمنحنا شريف صالح في هذه القصة، متعة القراءة، بما يضفيه على السرد من تصوير للقرية وبؤسها، وحياة الطفل وتصوراته، وعلاقات الأطفال، وعفويتهم. في ذات الوقت الذي يمنحنا أيضا، متعة التفكير والبحث عما يرمي إليه في البعيد، دون المباشرة، فيحترم عقل القارئ ويمنحه الإمتاع المنبعث من قدرة علي كتابة القصة القصيرة التي تحمل الرؤية الكبيرة.

ويستمر صالح في تناول المشكلة الاجتماعية في قصة “الرجل الذي يراقبنا” والتي يمارس فيها أيضا لعبة التخفي الجميل وراء المتعة القرائية، والمعايشة. للشخوص وللمكان، والحكاية الجاذبة. حيث يفرش لنا البيئة الاجتماعية المتمثلة في وصف كل من “بدر” جارهم و “شلبية” زوجته، بما يعطي ويهيئ مناخ الواقعية من جانب، ويفتح ثغرة للنفاذ إلي ذلك البعد المستتر وراء الظاهر. فنقرأ:

{بدر قارب الخمسين، نحيل ومصدور. لا يتوقف طول الليل عن السعال وتدخين الشيشة أثناء خفارة الشونة، لحيته تظل أكثر من أسبوعين بلا حلاقة، يتركها هكذا غير مشذبة، يخالط سوادها بياضها. فآثار الشيب ظهرت علي وجهه قبل الآوان بسبب حرارة شلبية وكثرة مائها فهي امرأة عفية تصغره بخمسة عشر عاما علي الأقل. لا ترتدي إلا جلابيب سوداء تستر لحمها العاري وتلتف حول استدارات جسدها. مؤخرتها ضخمة لا تتناسب مع نحول نصفها العلوي. كما لا تتناسب خشونة يديها مع بياض صدرها}.

فنحن هنا بامتياز أما صورة حياتية في جزء من القرية التي يدور عدد من قصص المجموعة فيها. تلك الصورة التي توضح ما عليه الرجل الذي أتت المكيفات على الكثير من طاقته. والمرأة التي تصغر الرجل – وهي أيضا عادة ريفية بامتياز- ولا زالت تحتفظ بقدرتها على العمل أكثر من الرجل. سواء في العمل العادي، أو في العلاقة الزوجية. وهو ما اختصره شريف في كلمات { خشونة يديهامع بياض صدرها}. وهو ما يمهد أيضا لما سنتابعه في القصة من أن “شلبية” هي الفاعلة – ضرب السارد في صدره أكثر من مرة، وبصقها علي وجهه، بينما “بدر يقف في البعيد يدخن سيجارة.

يتكرر ظهور “بدر” و”شلبية” في حلم السارد- وكثيرا أيضا ما تعتمد قصص المجموعة على الحلم – ويعتدون عليه، بحجة أنهما عملا في حقل أبيه، ولم يتقاضيا أجرهما.

ولكي نعيش القصة بحكيها، ومتعتها، يتواصل الحكي وتكتمل الحكاية. فيعترض السارد على أنه أو والده لم يأكلا أجر أحد، وأن العمل تم بالمزاملة، فبدر وشلبية زاملا والدي السارد في جمع القطن، ووالداه زاملاهما في جمع حقلهما. غير أن القرية كلها – تقريبا- تعاطفت مع بدر وشلبية. ونتعرف على أن السارد انتقل إلي مصر “القاهرة” وأن “علي” ابن بدر وشلبية” كان قد سافر وأقام مع السارد للعمل في مصر، غير أنه ظل على جهله، وعبطه. ويرى السارد في حلمه الذي يتكرر وأثناء (الخناقة) رجل عجوز يقف في البعيد، ولا يتدخل، ولو حتى لمنع الخناقة، وله تأثير كبير على جميع أهل القرية. فعندما أمرهم بالانصراف، استجاب الجميع دون تمهل. يكشف “شريف” عن وجوده، الإنساني في:

{قد يكون شبح جدي لكن لماذا لا أراه في داخل بيتنا، في “المندرة” حيث اعتاد الجلوس والنحنحة والتسبيح وإشعال أعواد البخور والاستماع إلى الشيخ المنشاوي؟}

ثم يعود السارد بعد ذلك ليؤكد أن الشيخ الواقف ليس جده {هذا العجوز ليس جدي}. ثم يعود بعد فترة أخري ليقول{رغم صمت الرجل العجوز ووقوفه كالصنم بثوبه الأبيض الوقور، لكن وجوده كان مريحا لي، ومنحني إحساس الطمأنينة}. ليجسد لنا الوجود الرمزي للشيخ الواقف على البعد، الذي يشبه جده، إلا أنه ليس جده. ويزيد السارد الرؤية إيضاحا، عند نهاية القصة، في تلك الجملة الكاشفة، عندما ينطق الشيخ الرابض علي البعد – في الحلم – :

{يا ابني افهم.. طول ما أنا محبوس في حلمك.. عليّ بن شلبية سيظل تائها كالأبله في حلم شخص آخر. وبدر وشلبية لن يتوقفا عن لصق ظهرك بالجدار}.

وكذلك يقدم الكاتب فقرة، نعيش بها في جو الواقع المعيش، ويفتح بها نافذة جديدة لرؤية ذلك الذي يلمح له في البعيد. فنقرأ عن طبيعة الفلاحين:

{هكذا هو طبع الفلاحين، عندما تغلق جميع الأبواب في وجوههم، يغضبون غضبة جمل، ويبحثون عن ضحية يأكلونها بأيديهم وأسنانهم}.  ثم يضع الكاتب مسافة بين السارد وبين الفلاحين، ليضعه في طرف، والفلاحين في طرف. ليزيد الرؤية بعض الإيضاح. فيكمل عنهم {إنهم همج …. حين ينفد صبرهم ….}. ولنسأل .. ولماذا نفد صبرهم؟ ليجيبنا شريف في فقرة أخري، أراها هي بؤرة القصة ومحورها:

{الأرض أصلا كانت مؤجرة بنظام المُزارعة، بيننا وبين المُلاك. أرضنا وأرض بدر. لكن الحكومة انتزعتها كلها من خمسة عشرة سنة، وأعادتها للملاك أصحاب فلل المارينا ومراقيا. يعني كلنا أصبحنا فلاحين من غير أرض، حتى المزاملة انتهت، كل فلاح يشتغل في أرض غيره بالجنيه..}. وقد أحسن الكاتب إذ وضع كلمة “أعادتها”. الأمر الذي يكشف لنا الحقائق.

وللوقوف على مدلول كل ذلك، يجب علينا تذكر مرحلتين في عمر المجتمع المصري، أو حقبتين، حقبة الستينيات من القرن الماضي. والتي تم فيها تحديد الملكية الزراعية، وانتشار شعار الأرض لمن يزرعها، فمَلّكت الفلاحين أرض الإقطاعيين. ومنحت الفلاحين شبهة امتلاك الأرض المؤجرة لهم، بإصدار قانون عدم طرد المستأجر. وهو القانون الذي تم إلغاؤه في الحقبة التالية. السبعينيات من ذات القرن (العشرين) عندما  أُستُصدَر قانون يلغي القانون الأول ويتيح لأصحاب الأرض استردادها.

ومن هنا نستطيع القول بأن الرجل العجوز ذا الجلباب الأبيض، شبيه الجد، أو ما يمثل المرحلة السياسية الأسبق، هو رمز السلطة السياسية في الحقبة الأولي. الواقف – بعد موته – سلبيا، لا يستطيع فعل شئ، والمحبوس في الحلم. والذي يمثل حلم الفلاح لتلك الفترة، والذي استطاع “شريف صالح” أن يعبر عنه فنيا، دون خطابة أو مباشرة.

وما يمكن أن يؤيد رؤيتنا تلك، من داخل القصة ذاتها، تلك المرأة العارية الطائرة في السماء، والتي اختطفت ابنة إحدي سيدات القرية، ثم أعطت أمها بدلا منها حمامة بيضاء، ففرحت بها الفلاحة، ابنة القرية. في إشارة إلي الفرحة بالسلام الذي أتى به السادات في الحقبة التالية.

وهكذا تسير قصص المجموعة. بين المتعة القرائية، المتمثلة في (الحكاية). وبين الرؤية البعيدة التي تدعو إلي إعمال الفكر، فتمنح القارئ المتعة الفكرية. وهو ما يمكن معه أن نجمل السمات العامة في قصص شريف صالح، والتي تضعه في مصاف من لهم بصمات علي فن القصة القصيرة:

  • الوعي الكافي بمفهوم القصة القصيرة.
  • الاعتمد علي الأسلوب السلس، الأقرب للحكي الشفاهي، مطعما ببعض السخرية غير المتعمدة، والتي تأتي عفو الخاطر.
  • السعي الدائم للتجريب والتطوير. والتي لا تخل بما تعارف عليه من مفاهيم النوع الأدبي، وقد تجلت هنا في استخدام الهوامش، التي ترتبط بالمتن ارتباط الجسد بالروح.

الاعتماد على المشاهد البصرية، التي تجسد الشخوص.

مقالات من نفس القسم