ممدوح رزق
تُعتبر (رجل عجوز على الجسر) لـ (أرنست همنجواي) هدية مثالية لمن أراد التعرف على تطبيق عملي لواحد من أكثر المفاهيم الكلاسيكية المهيمنة للقصة القصيرة: (سرد مكثف، يركز على شخصية هامشية منعزلة داخل حدث صغير ومهمل، يدور في مفترق للطرق) .. المعنى الذي أعاد (فرانك أوكونور) صياغته برونق مختلف في كتابه الشهير (الصوت المنفرد): (القصة القصيرة لم يحدث أن كان لها بطل قط، وإنما كان لها بدلاً من ذلك “مجموعة من الناس المغمورين”).
في هذه القصة لدينا كل شيء: شخصية هامشية منعزلة (رجل عجوز على جسر كان يعتني بمجموعة من الحيوانات) .. حدث صغير ومهمل (إجباره على التخلي عن الحيوانات، وترك البلدة بسبب القصف المدفعي) .. مفترق الطرق (الجلوس بين مدينة لا يمكنه الرجوع إليها، ومدينة لا يعرف أحداً فيها) .. تتحدد هامشية الرجل العجوز وانعزاله في كونه مجرد راعٍ للحيوانات، وليس زعيماً ملهماً أو قائداً عسكرياً مثلاً ـ حتى أنه لا يعتنق أي موقف سياسي ـ كما يتشكل الحدث الصغير والمهمل وفقاً لواقعة أضخم وهي الحرب .. لكن مفترق الطرق لا يتعين في حدود الاتجاهات البائسة التي تحاصر رجل عجوز عليه الهروب من الاشتباكات المسلحة فحسب، بل في مرارة الاختيار الصعب الذي لابد أن يخضع لحتميته: أن يظل جالساً في مكانه حيث يُبقي على احتمال العثور على حيواناته أو على الأقل معرفة مصيرها مع في ذلك من خطر مؤكد، أم التحرك بعيداً كضرورة تقضي على هذا الاحتمال ليس بمقدوره الاستجابة إليها.
كان يمكن لـ (همنجواي) أن يُسلّم دفة القصة ليدي العجوز، أي أن يجعلها تدور على لسانه فيكون الراوي الذي يتكفل بتنظيم تفاصيلها، لكنه أعطى هذا المهمة ـ بتلقائية لا تخلو من جبروت ـ إلى الجندي .. إن الرجل العجوز ليس في حاجة لأخذ دور المحرّك الأساسي ـ ظاهرياً ـ للقصة حيث تشغل حكايته بؤرة السرد، ولكن الجندي هو من يحتاج إلى ذلك الحوار الذي دار بينه والعجوز عن الحيوانات .. (همنجواي) أراد لهذه التجربة أن تمثله، فلم يكن ذلك الجندي
سوى (همنجواي) نفسه ـ أتذكر الآن صورة لـ (همنجواي) وهو يداعب قطته ـ الذي أراد أيضاً لكل واحد منا أن يكون كذلك .. أن ترى حياتك الهامشية المنعزلة من وراء النظارة الطبية ذات الإطار الحديدي التي يرتديها الرجل العجوز، وأن تستعيد كافة ما أُجبرت على التخلي عنه ـ ربما بمعاونة من العزاء الناجم عن التشارك في الحسرة ـ مثلما فعل الجندي حتماً وهو يستمع للعجوز دون أدنى كشف، بل وربما بتعمّد للإخفاء وراء ستار مقصود من اللامبالاة .. (همنجواي) لن يدفع الجندي للإفصاح عن هذا التوحد مع العجوز، بل سيجعله ـ بمنتهى البساطة الخبيثة ـ يُفكر في أن حقيقة كون القطط تستطيع العناية بنفسها، هي كل ما تبقى عند الرجل من حظ حسن .. الجندي الذي يسترجع في هذه اللحظة قطته التي تشبه كل القطط التي تحمل أرواحنا، ونفقدها دون مبرر في حروب لا تخصنا، وسيأتي وقت لن تستطيع فيه أن تعتني بنفسها.
ــــــــــــــــــــــــــ
رجل عجوز على الجسر
إرنست هيمنجواي
كان هناك شيخ، بنظارة طبية، إطارها من حديد، وملابس جد مغبرة، جالسا على حافة الطريق. وكان هنالك جسر، عائم على طوافات عبر النهر. حيث راح الرجال والنساء والأطفال والعربات والشاحنات يعبرون فوقه بدون انقطاع. لاحت العربات المسحوبة بالبغال، وهي تترنح على الضفة الأخرى الشديدة الانحدار، مما جعل الجنود يدفعون بكل قوتهم ضد أشعة الدواليب المتحركة نحو الأسفل. كانت الشاحنات أكثر ثباتا في صعودها، وما ان تغادر الجسر حتى تمضي بعيدا، والفلاحون كانوا يجرجرون خطواتهم فوقه، وسط الغبار السميك المتطاير فوق رؤوسهم، لكن الرجل العجوز ظل جالسا في مكانه بلا أي حركة. كان جد متعب للذهاب إلى أي مكان أبعد.
كانت مهمتي أن أعبر الجسر، وأمضي قليلا وراءه، لمعرفة مدى اقتراب العدو منه. لم يكن هناك الكثير من العربات آنذاك، في الوقت الذي لم يبق إلا قليل جدا من المشاة فوقه، لكن الرجل العجوز ما زال في مكانه.
سألته: “من أين جئت؟”
ـ من سان كارلوس.
كانت تلك مدينته الأصلية، لذلك فإن ذكرها منحه شيئا من الغبطة، جعلته يبتسم.
شرح قائلا: “أنا كنت أرعى مجموعة من الحيوانات”
نبست دون فهم ما قاله: “ها..”، أضاف الشيخ شارحا: “نعم.. لذلك بقيت في البلدة، للعناية بالحيوانات، أنا آخر من خرج من سان كارلوس”.
لم يبد عليه أن يكون راعي بقر أو غنم، قلت له وأنا أتطلع إلى ملابسه السوداء المغبرة، ووجهه الكامد اللون، وإلى نظارته ذات الإطار الحديدي: “ما نوع تلك الحيوانات؟” “إنها من فصائل متعددة”. قال ذلك، ثم هز رأسه: “كنت مجبرا على تركها”.
مضيت أراقب الجسر وريف مقاطعة دلتا ايبرو الشبيه بالريف الأفريقي، متسائلا في نفسي، عن مقدار الوقت المتبقي قبل ظهور العدو أمامي، حيث سيصل إلى سمعي أولا ذلك الضجيج الذي يدل على وقوع حادثة غامضة، يطلق عليها باللغة العسكرية: الاحتكاك الأول، والرجل العجوز ما زال متربعا فوق الأرض.
ـ أي حيوانات كانت معك؟.
ـكانت لدي ثلاث فصائل.. عنزتان وقط، ثم هناك أربعة أزواج من الحمام .
ـ وأنت كان عليك أن تتخلى عنها؟
ـ نعم بسبب القصف المدفعي. الكابتن طلب مني المغادرة بسبب القصف.
ـ وأنت لا عائلة لديك؟
سألته وأنا أراقب نهاية الجسر، حيث ما زال هناك عدد ضئيل من العربات مسرعة في هبوط ضفة النهر.
“لا”، قال الشيخ، “لم أترك ورائي سوى الحيوانات. أنا متأكد من نجاة القط، القط دائما حذر، لكنني لا أعلم ما سيحدث للبقية”.
سألته: “ما هو موقفك السياسي؟”
“ليس لدي أي موقف سياسي”، قال الشيخ، “أنا عمري ست وسبعون سنة، ورغم ذلك أجبرت على المشي اثني عشر كيلومترا، والآن لا أستطيع الذهاب أبعد من ذلك” قلت للشيخ: “هذا ليس مكانا جيدا للتوقف عنده.. إذا كنت تستطيع المشي، هناك شاحنات على الطريق المتشعب باتجاه تورتوسا”
“أنا سأنتظر قليلا، ثم أذهب.. أين تمضي الشاحنات؟”
“باتجاه برشلونة”
“أنا لا أعرف أحدا على ذلك الاتجاه”، قال الشيخ، “لكنني أشكرك كثيرا.. شكرا جزيلا مرة أخرى”
نظر الي دون تركيز، بعيون متعبة، ثم تكلم بنبرة قلقة عن شخص قريب له: “القط سيكون بخير، أنا متأكد من ذلك، ليس هناك أي مبرر للقلق عليه، لكن البقية.. ماذا تظن قد حدث للبقية؟”
ـ قد تكون جميعها خرجت سالمة من التجربة
ـ هذا ما تظنه؟
“ولم لا؟” قلت ذلك وأنا أراقب الضفة البعيدة، حيث لم يبق أي أثر للشاحنات آنذاك.
“لكن ما الذي ستفعله تلك الحيوانات تحت القصف؟”
“هل تركت قفص الطيور مفتوحا؟”
“نعم”
“إذن فالحمام سيطير”
“نعم بالتأكيد سيطير، لكن البقية؟”
أضاف مستدركا: “من الأفضل عدم التفكير بالبقية”
قلت حاثا اياه على الحركة: “أنا سأذهب الآن.. انهض وحاول المشي”
“شكرا لك”، ابتسم لي، ثم نهض واقفا لكنه راح يترنح من جانب إلى آخر. جلس ثانية، باتجاه معاكس لي، فوق التراب.
“أنا كنت معتنيا بالحيوانات فقط”. قال ذلك بنبرة رتيبة، لكنني كنت بعيدا عنه لسماع جملته، المتكررة: “أنا كنت معتنيا بالحيوانات فقط”.
لم يكن بالإمكان عمل أي شيء لمساعدته. كان اليوم أحد الفصح، والفاشيون يتقدمون باتجاه ايبرو، وكان نهارا، ملبدا بالغيوم الرمادية الهابطة إلى ارتفاع قليل، مما جعل طياراتهم جاثمة في مواقعها. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن حقيقة كون القطط تستطيع العناية بنفسها، هي كل ما تبقى عند الرجل من حظ حسن.
* ترجمها عن الانجليزية لؤي عبد الإله من مجموعة «الرابح لا يجني شيئا» وتدور حول الحرب الأهلية الإسبانية