“حكايات الغماز” .. حين تنام الحكايات ويصحو راويها.

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
ليست مجرد مجموعة قصصية، بل شريط سينمائي طويل. كل قصة مشهد، كل مشهد زاوية، وكل زاوية تؤدي إلى التالية بسلاسة، حتى نصل إلى "لقطة أخيرة"

أفين حمو 

كم مرة انتظرنا تحت أعمدة الإنارة صديقًا أو حبيبًا؟ لم نكترث يومًا لتقلّب المناخ، ولا لتبدّل الطقس، فقط كانت الأعمدة شهودًا على صمتٍ في القلب لا يقال. كم مرة حدّقنا فيها في عمود وقلنا له: لو كنت تنطق، لقلتَ كلّ ما لم نستطع؟ لكن ماذا لو طُلب منك الوقوف قليلًا على رصيفٍ قديم، في محطة نسيتها القطارات، لتفهم أن الأماكن لا تنسى، وأن أعمدة الإنارة ليست مجرد مصابيح صدئة، بل ذاكرة عمُر، وشاهد على من مرّوا واختفوا؟!!

هنا، يبدأ “الغماز” حكايته. لا عجائبية في الأمر، فقط عمود إنارة يتكلم. ولكن من قال إن الجمادات لا تحنّ؟ من قال إن المعدن لا يخزّن أنين العابرين؟ من السطر الأول في “حكايات الغماز” (الصادرة مؤخرًا عن دار العين) تطالعنا الكاتبة هبة الله أحمد بهذه المفارقة البسيطة والمباغتة: عشرون قصة قصيرة، لا يقف فيها السرد على عتبة التكرار، ولا يرضخ لخطابات مألوفة. بل نحن أمام شريط إنساني طويل، حيث تلمع التفاصيل الصغيرة كدمعةٍ في زحام، تحت ضوء فانوس قديم.

في أولى قصص المجموعة، “صباح الخير يا رب”، لا يبدأ الغماز نهاره إلا على وجوهٍ بسيطة، نساء قادمات من الريف، يحمِلن الحكايات فوق أكتافهن مثل سلال مليئة بالأمل والرغبة في البقاء. “سعيدة” تجلس على الرصيف وتصلي كأنها تطرق باب السماء بلهفة الأمهات:

صباح الـخيـر يا رَبّ.. بحق جاه حبيبك النبي يا رب تصبَّحنا وتربَّحنا، وبين عبادك ما تفضحنا، وتستر بنتي وتنجحها، وأشوفها دكتورة قَدّ الدنيا… هو فيه حـد زيك إنت يا حبـيـبـي. تعبت يا رب، لكنني راضية ومستبشرة، دكتورة يا رب.”

بجوارها تجلس “شوق”، باكية، تفتح باب الحلم الشعبي القاسي:

“البخت مايل يا خالة سعيدة، أبويا يقول دايمًـا: أنا خلِّفت صبي، وبيعاملني كصبي طول الوقت على الرغم من ضفايري الطويلة، وغمز المرايا لي...”

لم يعد الرصيف، في هذه اللحظة، مجرد حجر، بل صار جدارًا للبكاء، مستودعًا لأسرار لا تُقال إلا في الفجر.

في قصة “سيمافور”، يتحوّل “الشاويش سلامة” من رجل أمن إلى جرح مفتوح، يمشي وهو يطارد لا سجينًا، بل ظلّ نفسه. هرب فتحي، واختلّ معه عقل سلامة، فراح يصرخ في قلب المحطة، وكأن الماضي يطارده هو:

مش هسيبك يا فتحي يا بْن الكلاب!

ليست مجرد قصة عن العدالة، بل عن التيه، والخذلان الإنساني.

ثم تأتينا قصص “توهة”، و”رب القلوب غالب”، و”عجوز المحطة” بأسماءٍ تشبه وجوهًا نعرفها جيدًا، وجوهًا عبرت رصيف حياتنا في يومٍ ما.

في “توهة”، تهرب ابنة من أمها، لا كرهًا بل قهرًا. “حنان” تعتذر بوجهٍ يُشبه الغروب:

“سامحيني يا أمَّه.. إنتي عارفة الظروف، الدنيا بقت ضيقة، وجوزي بيشتغل يوم ويقعد عشرة، والعيال كبرت وضاقت بهم الأوضتين.”

وفي الزاوية الأخرى، تهمس الأم “فاطمة” لنفسها بعد أن تُركت:

“هو أنا فين يا ولاد؟ كبـرتي وخرَّفتي يا فاطنة، وعقلك بقى خـاوي؛ زَيّ الطبل في عـزا شاب صِغار.”

القسوة، هنا، ليست من الناس فقط، بل من الزمان أيضًا.

في “ابن المحطة”، نلتقي “سفروت”، الطفل الذي ربّته الأرصفة. يسأله “عطوان” لماذا لا يمتهن صنعة، فيردّ الطفل بجملة تختصر كل الحلم الشعبي في عيون بلا أوراق: لأ.. أمي عاوزاني أطلع ظابط.”

ويروي عن أمه حين سألها عن نسبه:

قالت لي: إنت كنت تايه في السما، والنورس حدفتك في حِجْري عشان تملا عليَّ دنيتي. عاوزاك تطوِّل رقبتي ويقولوا: كردوسة عرفت تربِّي.”

ليست الحكايات عن اللقطاء فقط، بل عن أبناء وطنٍ لا يعترف بهم أحد، بينما هم يحلمون.

 في “الجاثوم”، نجد “راجي” لا ينام، ليس لأن النوم جفاه، بل لأن الحياة ضاقت به:

“أنا مش خايف من النوم، أنا خايف من اللي بيجيلي وأنا نايم.”

هكذا يصبح النوم مرآة يرى فيها روحه المشققة.

حتى نصل إلى القصة الأخيرة، “لقطة أخيرة”، تموت شخصية بلا اسم، ويتجمع حوله كل من عبروا القصص السابقة. لا نهاية تقليدية هنا، بل تقاطع مصائر، وسؤال مفتوح: كم من أشخاص ماتوا ولم نعرف عنهم شيئًا؟ تلفت  الأنظار الجميع ، ويُسألون “سلامة شاويش”:

يعني ده فتحي؟” فيردّ: “كلكم فتحي.. كلكم ولاد كلاب تـجـري وراءكم كلاب”، ويصرخ: “وسَّعُوا يا مساكين لا تفزعوا المسكين في نومته.”

يشبه أسلوب هبة الله خطوات امرأة عجوز على رصيف مبلول: بطيء، دقيق، لكنه يترك أثره في القلب. لغتها بسيطة، لكنها محمّلة بإشارات، تلمس القارئ قبل أن تُبهره. إنها لا تصرخ، بل تهمس حتى يُسمَع صوتها في الداخل.

اللافت أيضًا هو تعدّد الحالات النفسية في الشخصيات: الزهايمر، المرض النفسي، الخذلان، الغضب، الرغبة في الانعتاق. كلها تمرّ كمن يفتح بابًا دون أن ينتظر أن يُفتح له، فقط لأن لا أحد يحرس الداخل.

لكن المفارقة الأجمل تكمن في اللغة. حين تكتب “هبة الله” بالفصحى، تمنح السرد عمقًا تأمليًا، كأنك تقرأ أثرًا قديمًا منقوشًا على جدار محطة. أما حين تنساب إلى العامية، فلا تنحدر، بل تصعد بك إلى قلب المدينة، إلى لهجة الشوارع، وضجيج السوق، ودفء الأرصفة.

العامية هنا ليست وسيلة حوار، بل روح النص، طين سكندري يُسقى من عرق الناس، وتتحرك به الحكايات كأنها تتنفس. تسمع “سعيدة” تقول “صباح الخير يا رب”، فتردّ تلقائيًا، وكانها جالسة بجوارك.

التبديل بين الفصحى والعامية منح النص مرونة نادرة. القارئ لا يقرأ فقط، بل يعيش داخل النص، كأنه يجلس على الرصيف، يتأمل الغماز، ويحتسي الشاي من يد “كردوسة”.

هبة الله لم تكتب من برجٍ عاجي، بل من قلب الشارع، من دفء الطوابير، ومن وجع الذاكرة.

“حكايات الغماز” ليست مجرد مجموعة قصصية، بل شريط سينمائي طويل. كل قصة مشهد، كل مشهد زاوية، وكل زاوية تؤدي إلى التالية بسلاسة، حتى نصل إلى “لقطة أخيرة”، العنوان الذي لم يُكتب عبثًا.

نحن لا نغادر المحطة، بل نعيش فيها، بكاميرا على الكتف، نرصد العابرين، نتسلل إلى الحوار، نشرب الشاي ونبكي إن لزم. هذا البناء السينمائي المتماسك لا يجعلنا نقرأ، بل نحيا.

في حكايات الغماز كأننا لم نقرأ حكايات متفرقة بل جلسنا على مقاعد خشبية قديمة في بهو مسرح سكندري، لنشاهد عرضًا حيًّا يشبه مسرحية “ميس الريم” لفيروز. المشاهد تتوالى والبائعة تصرخ، العجوز تهذي، الطفل ينشل، الشاب يتأمل، والقط يموء حزنًا. لا شيء منفصل. كل تفصيل مرتبط بالذي يليه، كل قصة تُكمل الأخرى، كما يُكمل الضوء وجه العتمة. إنها ليست مجرد مجموعة قصصية. إنها محطة مسرح، ناسها أبطال، حواراتهم الحان عذبة، وصمتهم موسيقى تسكن القلوب.

وحين تنطفئ الفوانيس، وتُسدل الستائر، لا يبقى في الذاكرة سوى جملة واحدة يقولها لنا  الغماز وهو يبتسم بإرهاق: “كل يوم هنا مسرحية،لكن لا احد يصفق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية

مقالات من نفس القسم