حكي وقصة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ما هي فكرة “حكي وقصة”؟ وكيف نشأت؟

بدأ عملي في الحضانة بصدفة، جعلت جارتي التي تقدمت للحصول على وظيفة بها، ترشحني للعمل بدلا منها، فكان المكان الشاغر لمعلمة لغة عربية.

ذهبت لمقابلة المديرة المسئولة عن سلسلة “الحضانات” التي سأعمل في واحدة منها، سيرتي الذاتية لشاعرة وقاصة وكاتبة، لا علاقة لها بالعمل مع الأطفال، وإن كان لساني العربي أرضية مشتركة للتواصل مع عالمهم الواسع. اتفقنا على التجريب.

“التجريب” كوة سحرية لاكتشاف الممكن، فلما لا؟

الممكن

 اصطدمت من اليوم الأول بحالة طفل حير الحضانة بسبب جنوحه، فهو لا يخضع لأية سيطرة، لا يحب المقعد، يشاغب المدرسات، يضرب أصدقائه، ورغم ذكائه المتوقد لا يكتب الواجبات، ولا يلتزم بأي اتفاق أو قاعدة.

تعلمت بالتدريج أن الأطفال لا يتعمدون الإساءة، ولا ينتقصونك لتحقيق أهداف خفية، فقد كان سلوكه دفاعيًا؛ بسبب تجربة مريرة حدثت له في حضانته السابقة، حيث اتبعت المدرسات فيها استراتيجية تكتيفه لأنه ببساطة طفل حركي.

فكيف تقيد فراشة حرة، من دون انتظار انتقام ورد فعل عنيف؟

قرر “عمر” لا إراديا الانتقام من منظومة التدريس بالكلية –هذا ما توصلنا إليه بعد وقت ومجهود مني ومن “ناهد” مدرسة تنمية المهارات وتعديل السلوك، و”خلود” مدرسة الإنجليزي والماث”-

نظام التدجين العالمي المصاحب لفكرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، لا يناسب كل الأطفال، فهناك فرق بين تعلم المسئولية والالتزام اللازمين للنمو، ووأد الإبداع والقدرة على الفردانية والتميز لدى الإنسان الحر.

وجدتها

كان الحكي أحد أساليبي السحرية لجذب انتباه الأطفال، وربما لا يسع الأوراق المواقف التي مرت لاكتساب ثقة طفل عنيد مثل “عمر” تعمد سبي، ومقاطعتي أثناء وقت الشرح….، إلا أنني استطعت اكتسابها في لحظة وثقت أنا فيه أولًا، ولم أحكم عليه أو أرد له إساءة. طلبت منه أن يحل مكاني للحكي لأصدقائه.

فوقف وسط الفصل يرتجف من الخجل، يقول كلمة ويصمت فأتدخل لتحفيزه:

حكي عمر

عمر: كان ياما كان، كان في قرش كبير جعان.

ابتسم لأشجعه: بيعيش فين يا عمر؟

عمر: بيعيش في البحر.

لا إراديًا و”بصوت عالٍ ممطوط وحركة مسرحية للفت نظر الأطفال:

يا أولاد كـــــــــان ياما كـــــــان، كان في قرش كبيـــــــر، بيعيش بعيـــــــــد في أعـــماق البحر، وكـــــان جعــــــان قوي، إيه تاني يا عمر؟

عمر: كان في سمكة صغيرة قوي، فالقرش بلعها.

أسأله بوجه فضولي:

القرش الكبيــــــــــــر فتح بقه جـــــــامـــد، وقام بالـــــع السمكة الصغيرة، ها يا تري عملت إيه؟

عمر: فضلت في بطنه تعيط وخلاص خلصت الحدوتة.

أحاول مساعدته:

ممكن نفكر مع بعض، ليه يا عمر السمكة ماعرفتش تهرب؟

ظل صامتًا حائرًا وكأن كل ما كان يفعله من ضرب وتكسير مجرد قشرة سقطت بانتقاله إلى حيز جديد لصورة ذهنية فهو طفل مميز ننتظر منه إسعادنا، بدلا من طفل غير مرغوب فيه لأن لديه جناحان لا يمتلكهما الكبار.

  أسأله:

مش يمكن جريت من بين أسنانه عشان هي صغيرة؟ ولا يمكن قعدت تزغزغه في بطنه وهو فتح بقه وضحك قوي فجريت السمكة؟

وكأنني قذفت إليه بطوق نجاة، هتف بضحكة واسعة:

آه يا مس، السمكة قعدت تزغزغه في بطنه وهو يضحك وبعدين جريت واستخبت…

ثم جرى واستقر في حضني بامتنان، وسط تصفيق أصدقائه.

في عملي مثل تلك اللحظات لا تمر عليّ كثيرًا، ولن أدعي أن “عمر” تحول إلى ملاك، فقط تقبلنا نحن طبيعته وهو تقبل بعض المسئوليات والقواعد، فأصبح يكتب بعض الواجبات، وقلل الضرب ليعبر عن احتياجاته بالكلمات، وكما قلت لا تتسع الصفحات لسرد إخفاقات كثيرة مررنا بها معًا، ولكنني في زاوية الكتابة عن تجربتي كمدرسة حضانة، أفضل سرد نجاحاتنا الصغيرة، والفارقة في آن.

ومن تلك النجاحات انبثقت فكرة “حكي وقصة”، طفل يحكي وأنا أكتب قصة مستوحاة من حكيه، وهذه قصتي المستوحاة من قصة صديقي “عمر”.

قصة سمكة الحريد

البــــبـغاء

تعيش سمكة صغيرة بالقرب من شاطئ مدينة “سفاجا” بمحافظة البحر الأحمر المصرية، وبيتها يختبئ في أحد الشعاب المرجانية الملونة بالأزرق والبرتقالي والوردي والرمادي والأخضر. واسمها “الحريد” جاء من فمها المقوس الذي جعلها بألوانها الزاهية التي تشبه ألوان بيتها أشبه بالببغاء، لهذا سميت أيضًا بسمكة “الببغاء”.

وفي يوم من الأيام اقترب قارب صغير من بيتها، وبعد قليل سمعت السمكة صراخاً وبكاءً، فخرجت لترى ما يحدث.

وجدت طفلة صغيرة تبكي وتصرخ وأمها تقف بجانبها تربت على كتفها لتهدئها حتى تفهم سبب بكائها، وبعدما هدأت قليلًا أخبرت أمها أن خاتمها الصغير سقط من يدها في الماء، فقالت لها أمها:

-“صغيرتي، هل بكائك وصراخك أعاد الخاتم الضائع؟”

فأجابتها الصغيرة:

=”لا يا أمي”

فقالت أمها: “حبيبتي المشكلات لا تُحل إلا بالتفكير، وإن لم نجد فكرة نسأل الكبار حتى نحصل على المساعدة”.

ارتدت والدة الطفلة ملابس الغطس، ثم قفزت في الماء لتبحث عن الخاتم الضائع. ساعد الماء الصافي النقي، في عكس صورة قاع البحر في عينيّ الأم، وكأنه لوحة خلابة، تتداخل فيها ألوان الأسماك، والشعب المرجانية، والقشريات، والنجوم البحرية؛ لهذا اختفى وسط هذه اللوحة العظيمة من صنع الخالق أي أثر للخاتم.

لاحظت سمكة “الحريد” ارتباك الأم وحيرتها، فقررت أن تساعدها في عملية البحث، حركت بذيلها طبقات الرمل، حتى لمحت ضوء صغير يأتي من بقعة قريبة، اقتربت منها والتقطت بفمها الخاتم، وسبحت باتجاه الأم التي فرحت كثيرًا وشكرتها بإماءة امتنان من رأسها، ثم عادت إلى السطح لتعيد لأبنتها الخاتم.

مرت الأيام وكبرت سمكة “الحريد”، وبدأت تخرج بصحبة أصدقائها، لاكتشاف مناطق أعمق، وأبعد عن منطقتها.

ولكن ظهرت فجأة سمكة قرش كبيرة وابتلعتهم جميعا، إلا سمكة “الحريد” التي بدأت في البكاء حزنًا على أصدقائها.

تذكرت “الحريد” قول الأم لأبنتها: “المشكلات لا تُحل إلا بالتفكير”. ففكرت في طريقة تنقذ بها أصدقائها، وجاءتها فكرة، سبحت بهدوء تجاه بطن القرش وبدأت بزعنفتها في زغزغته حتى ضحك وفتح فمه على اتساعه، ففرت السمكات من فمه وهن سعيدات بالنجاة.

 

مقالات من نفس القسم

حاتم عبد الله
تراب الحكايات
حاتم عبد الله

العريس

ragab saad alsayed
تراب الحكايات
موقع الكتابة

انزل