خمس بيضات

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علاء الدين فايز 

لتتحصَّل على أول بيضةٍ، كان عليها أن تثني جذعها وتمد يدها بأقصى استطالة لتصل إلى حافة سقف قُنِّ الدجاج وتلتقطها كما فعل أبوها حين التقطها من بين الصبية الصغار حينما كانت بنت خمسة أعوام تلهو وتهزُّ كتفيها على أغاني حصاد المحصول.
لتتحصَّل على بيضة ثانية، كان عليها أن تدفع الباب الصغير لتجد البيضة خلفه، كما دفع أبوها الباب لترى النسوة يولولن على تلك الشابَّة التي قضت بعد الولادة فلحقت بمولودها.
لتتحصَّل على ثالث بيضة، كان عليها أن تنكفئ لتُدخل رأسها في القنِّ قبل أن تغيب الشمس ويغيب معها آخر ضوء يُمكِّنها من التفتيش خلف الدجاجات، تمامًا كما كانت تفتِّش زوجةُ أبيها عن البيضات في ملابسها، كانت الصغيرة تتلقَّى الصفعات واللكمات عقابًا على منحها البيض للجارة العجوز المُعدَمة.
لتتحصَّل على رابع بيضة، كان عليها أن تخفض رأسها إلى الحد الذي يلامس الأرض كما فعلتْ ليلةَ عُرسها أمام رَجُلٍ في عمر أبيها، لا كلمة، لا رفض، لا رأي؛ كي تكتمل السيطرة لزوجة الأب وقتها ويتحصَّل أبوها على كل الأرض مستقبلًا.
لتتحصَّل على بيضة خامسة، كان عليها أن تنسحب بظهرها حبوًا وللخلف كالطريقة التي بدأ بها ابنها الحبو، ارتداده العفوي للخلف وقتها كان مُبهجًا، لكن ارتدادات الذاكرة الآنَ ألمٌ مُضاعَف، لا تعرف كيف حاله الآن، لكنها ما زالت تتمنَّى أن يكون زحفه للأمام.
البيض فقط، لا خبز معها، لا حبوب لتطحنها، حتَّى الماء لا تدري كم يومًا قد يكفيها، لا طعام سوى البيض؛ لتشعل النار إذًا بطريقة بدائيَّة، بالأحجار المتناثرة حول الحظيرة المهجورة على أطراف القرية، التفكير في ذبح إحدى الدجاجات يعني الاقتراب خطوةً من الفناء، لم تخرج بغير خمس دجاجات وعشر قِرَب ماء بعد أن حُكم عليها بالنفي بعد عودته من الحج، لم يعترض أحد؛ فكيف لمن تطلب الطلاق مرارًا ثم تخرج من ذمة العمدة أن تبقى في زمامه؟!

عوَّلتْ على عودته كي يتطهَّر من خطيئته الكبرى، منحها الحرية فقط وأغدق على أهل القرية بالنفحات والماء المبارك الذي جلبه معه، وإمعانًا في نشر البركة سكب كثيرًا منه في البئر الذي يَرِدُه الجميعُ لسقيا البشر والدواب.
مرَّت أربعون يومًا كالأربعين التي قضاها الحاجُّ في الحجر الصحي قبل وصوله، ملَّت في آخرها طعم البيض المشوي، نَفِدَ الماء وبدأت تبحث عن مصادره حتَّى وصلت إلى التبَّة المرتفعة التي كانت متنفَّسها اليومي وآخرَ حدود منفاها وأقرب مكان يُمكنها من خلاله أن تُلقي نظرات التعلُّل والرجاء، حملت الريحُ أصواتَ العويل، كانت تعرف من حجم الصوت أن مصابًا كبيرًا حدث، وهذا ما قد يصرف الأنظار عنها إن عادت إلى المكان المحرَّم عليها دخوله، قادتها قدماها إلى بؤرة الصوت، لم تكُن بؤرة واحدة، كان صوت الموت ورائحته في كل مكان.. وكأنَّ حربًا طاحنة لتوِّها انتهت بانتصار الكوليرا وهزيمة الجميع، تجرَّأتْ أكثر تُحفِّزها جرأة الموت قبلها ودخلت، كانت الدار في عينيها خاوية، حيث لا شيء ولا أحد غير طفلٍ يحبو..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة “صلاة الخواجة ويلي” .. الحاصلة على جائزة يحي الطاهر عبد الله للقصة القصيرة 2023 
صادرة عن دار المرايا للثقافة والفنون 

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب