العالم فوق ظهر سلحفاة بحرية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
أتت الشمس مشرقة. ومع ذلك كان يومًا شديد البرودة. جلستُ بجوار الحائط الزجاجي في مقهى هادئ بعض الشيء، مقارنة بصوت المدينة الصاخب. لا توجد سوى ثلاث طاولات مشغولة. قضيتُ وقتًا طويلًا في مراقبتها وأنا أنتظر قهوتي

ليلى القباني 

يدي المرتعشة أسقطَت القلم، فترك ندبة زرقاء على قميصي الرمادي. مشيتُ بغضب إلى باب المطبخ لأفتحه لأنوبيس، بعد أن ظل ينبح لمدة 6 دقائق. أكره أن أنظر له بتلك الصرامة، لكنه مزعج، وأحيانًا يشكو الجيران من صوت نباحه العالي. أخذتُ نفسًا عميقًا وأنا أحاول أن أهدئ نفسي؛ فقد أصررتُ على أن يكون مزاجي جيدًا اليوم. حاولتُ أن أبدأ اليوم بابتسامة، لكنني شعرتُ أن صدري يتنهد لا إراديًا عندما أدركتُ أنه يوم ضبابي آخر. استطعت أن أخمن ذلك من الضوء الخجول الذي يتسلل بالكاد من الستائر. 

حدقتُ في الجدار الأخضر القاتم مقابل أريكتي المفضلة لبعض الوقت، ثم نظرتُ إلى قلمي. أقول لنفسي إنني وعدتُ فؤاد ألا أفكر فيما حدث في العمل ذلك اليوم. على الرغم من أنه طبيبي النفسي، فإن صداقتنا تطورَت بسرعة. عرفتُه منذ تسع سنوات. مازلتُ أذكر الشجار الشديد بيننا أثناء أشهر الحمل الأولى، لأنه لم يستطع فعل أي شيء حيال الكوابيس التي أعاني منها. الآن هو أكثر شخص أثق به؛ وقال إنني لا يجب أن أفكر فيما حدث يوم الأربعاء.

بدأتُ في إطعام أنوبيس، لكن بعد بضع دقائق رن هاتفي. ابتسمتُ حين رأيت اسم المتصل، فخ آخر أضع نفسي فيه عمدًا.

– علي كيفك؟ … لا مش وحش أوي، أقصد إني أكيد واحشاني الطريقة اللي الشغل بيخليني مشغولة بيها، ومش متعودة على الفراغ دا، بصراحة. بس عارفة إني محتاجة بريك.

أشعر بسعادة وهو يخبرني أنه اشتاق لي. لكنني لا أجيب. 

– أنا آسفة، يا علي، مش هقدر آجي.

توقف عن الكلام فجأة، مما جعلني أكثر توترًا ، لكنني علمتُ أنه يجب علي الاستمرار.

– أنا عارفة أنت عاوز تقول إيه. صدقني صعب إني أسمع دا، زي ما صعب إنك تداريه. أنا لازم أقفل دلوقتى، هكلمك تاني.

*****

قضيتُ بقية اليوم أفكر فيه، حتى الكتابة لم تكن سهلة، كما توقعتُ، لشخصية فرضت نفسها على الرواية مثل جمال. في صباح اليوم التالي كنت أحاول أن أجد طريقي إلى نسخة ربة المنزل الناجحة فيّ، وأعد فطورًا جيدًا، عندما سار خالد إلى المطبخ وعانقني.

– صباح الخير.

– صباح النور.

– بتشتغلي على حاجة جديدة، ولا هي نفس الرواية؟ تقريبًا كان فيه اسمين زيادة في النوت.

 كنتُ أفرد الجبن على شرائح الخبز، حذرة ألا أدع شيئًا من الجبن يلطخ فستاني الكحلي كالعادة.

– زودت شخصيتين للرواية، ايوا.

– عجبتني البنت، اسمها يارا؟ 

– آه يارا. إيه رأيك؟

 سألتُه وأنا أسكب القهوة ، بينما أعطيتُه الكوب الأصفر بدلًا من كوبه، متظاهرة بأنني لم ألاحظ، وبدأت الارتشاف من فنجانه الأزرق. أخذ الكوب الأصفر بابتسامة مصطنعة، ووضعه جانبًا، أطفأ السيجارة ثم نظر لي.

ــ فيه حاجة مش فاهمها في يارا. ليه متمردة؟ أقصد ان حياتها مستقرة جدًا. انتي حتي عندك مشهد إن الولد اللى معجبة بيه بيحاول يكلمها. الغضب دا جاي منين؟ وليه؟

أبدى اهتمامه بكتاباتي هذه المرة أكثر من المعتاد.

ــ عشان احنا بشر، بندور على اللي ناقصنا، مش اللي عندنا.

نظر في عيني. يزعجني عندما يتصرف كملاحظ كلما قلت شيئًا غير مقنع بالنسبة له. لكنني قررت أن أكون ملاحظة أيضًا هذا الصباح. أن تنظر وتنتظر أن ترى شيئًا غريبًا، متظاهرًا بأنك منغمس في التفكير فيما يقوله الآخر. ظللتُ أنظر إلى عينيه بنفس الطريقة. رفع حاجبًا واحدًا وابتسم. نظر إلى وجهي ثم نظر إلى السماء خلال النافذة الزجاجية خلفي. ابتسمتُ له بصدق للمرة الأولى هذا الصباح، عندما اقترب فجأة وقبلني.

ــ اتأخرت، لازم أمشي، أتمنى لك حظ حلو في الكتابة النهاردة.

قال بعد أن أخذ الكوب الأزرق من يدي ورشف منه قبل أن يبتعد.

******

كان وقتًا مثاليًا لبدء طهي وجبة مايا المفضلة. مايا مفعمة بالحيوية ومحددة للغاية بشأن ما تريده، وهو ما أراه مذهلًا لفتاة بعمر ثماني سنوات. بالنسبة لي؛ يعدل وجود مايا ميزان الحياة. على مدار ثماني سنوات كان يمكنني أن أنظر لأي شيء من نقطة أعلى. غير قابلة للهزيمة أو غير عابئة بالنتائج. جعلَتني مايا أؤمن بأن المشاعر يمكن ضبطها. وهذا ما حاولتُ فعله في الأسبوعين الماضيين. لكن هذه المرة لا يبدو أن شيئًا يكفي، حتى الأيام الهادئة التي أقضيها بين المطبخ والكتابة.

تمكنتُ من الضحك بصدق وأنا أعانقها، أفك ضفائر شعرها وأنا أستمع إلى قصة الفيلم الذي شاهدَته في الفصل اليوم. أنظر إليها وهي تحرك جسدها في خفة وبهجة. تمزج البطاطس المطهوة والأرز، كأن هناك لحنًا لا يسمعه أحد سواها. جلست أراقبها وهي تآكل بابتسامة لا تخرج إلا لها. تبتسم لي وتغمز بعينين، فأضحك وأغمز لها بعين واحدة تحاول مرة أخرى لكنها لا تستطيع. 

ــ بتعمليها إزاي؟

تسألني بصراخ مرح.

ــ بعدين هقولك. خلصي طبقك، ياللا. 

عندما أوشكَت على الانتهاء. طلبتُ من مربية الأطفال الجلوس معها. أخبرتُها أن تتأكد من قيامها بجميع واجباتها المدرسية. عانقتُ مايا ثم ذهبتُ لأستعد لموعد فؤاد.

مكتب فؤاد يحيي فيك شعورًا غريبًا بالحنين. أي شخص يدخل هذا المكان للدقيقة الأولى سيشعر وكأنه دخل في فجوة زمنية تأخذك إلى الستينيات. لا توجد شاشات في أي مكان حولك، وهو أمر غير معتاد ، لكنه أهدأ هكذا. بدلًا من ذلك، هناك بعض الصور الفوتوغرافية من الخمسينيات والستينيات لوسط البلد وبعض الأماكن الأخرى المعروفة في القاهرة والإسكندرية. يوجد أيضًا جراموفون لامع كأنما تم شراؤه بالأمس. منذ خمس سنوات عندما انتقل إلى هذه العيادة. أصبحَت هذه وجهتي المفضلة للتحديق، حتى يحين دوري عندما تكون لدي جلسة. عادة ما أكون آخر “مريض” في يوم عمله. لم أنتظر طويلا اليوم. مرت 15 دقيقة فقط قبل خروج المريض السابق. دخلتُ المكتب. عانقت فؤاد ثم جلست على كرسيي المفضل بلون الفستق. رائحة التفاح والقرفة تزيد المكان دفئاَ. كانت المحادثة طبيعية في البداية. ضحكتُ عندما أخبرني فؤاد عن جدال زوجته وابنته المراهقة. 

ــ كلاهما حاد، خليهم يتفاوضوا، بس خليك محايد؛ لو مش عايز تنام على الكنبة لباقي الشهر.

ــ عندك حق.

 قال وهو يطوي ذراعيه:

ــ قولي لي بقى ،قررتِ هترجعي الشغل إمتى؟

أهز رأسي.

ــ مفيش مشكلة. خذي وقتك. لكن مترهقيش نفسك بالتفكير. البريك عشان تهدي. عارف مدى جنون اللي حصل، لكن متخليش دا يهزك. صدفة.

سرعان ما تراجع عما قاله حين نظرت إليه. 

ــ أو خلينا نتعامل مع الموضوع بالمنظور دا… نينا، فين جوزك؟

ــ موجود. مشغول شوية يمكن، أو كتير و….بوسنا بعض امبارح.

أضحك 

ــ فعلا؟ ثانية بس؛ أنتو ما بتبوسوش بعض. أقصد دي نقطة مهمة. 

 يضحك وهو يحاول التقاط دفتر ملاحظاته.

ــ بتعمل إيه؟ سيب دا. أقصد إنها كانت بوسة مختلفة.

ــ عرفي مختلفة. 

ــ مكانتش باردة، بس كانت معتادة أوي، زي أوضتك، اللي حافظ كل ركن فيها. بس أوقات بتكون محتاج تخرج.

قلت محاولة وضع مشاعري في الكلمات الصحيحة.

ــ وعلي هو الأدرينالين اللي بتدوري عليه؟ مغامرة جديدة لكسر الروتين؟

سأل فؤاد، وهو ينظر مباشرة لعيني. لا أعرف ما إذا كنت مرتاحة أكثر لأنه يستطيع فهم ما لا يمكنني قوله، أم قلقة من أن يرى شيئًا أفضِّل عدم الكشف عنه.

ــ فيه حاجة في علي صادقة ومريحة جدًا بالنسبة لي. وجوده هادئ، زي كوباية ماية درجة حرارتها مظبوطة بالمللي زي ما بتحب. بيبص لي بعيون كلها حب ووَلَه.

ــ وخالد، كمان. 

لم أكن أتوقع هذه الجملة الأخيرة من فؤاد. 

ــ مكنش عندي مشكلة مع كونك بتبصي وتضحكي لأغراب في المترو. ولا مع إنك سهرتي ورقصتي مع واحد كان واضح إنه بيعاكسك ـ بغض النظر عن إنه كان عيل في العشرينات، زي ما قلتي ـ ممكن أفهم فكرة أنك عايزة تخرجي وتعملي حاجات مجنونة. بس علي مختلف ، علي مش هياخدك أي مكان برا، أنت مبتلعبيش هنا. أنت بتحبي، يا نينا. كصديق أنصحك بالتفكير مرة تانية في مشاعرك تجاه علي. لحد ما تعملي دا. ما تهزيش القارب.

لم أفهم جملته الاخيرة، فأكمل:

ــ أنتي مش محتاجة كل الأسئلة اللي بتوجديها في دماغ خالد.

بعد لحظة من الصمت، كنت أنظر دون قصد إلى الجدار الأصفر، حيث أحدث لوحة فسيفساء اشتراها فؤاد. كانت لوحة لسلحفاة بحرية.

ــ جميلة، مش كده؟ قولت لـ جيجي إن اللوحة دي مختلفة. فيها معنى يؤثر على قدرة الشخص أنه…

قال بصوت فخور.

قاطعته: 

ــ فؤاد… فؤاد كنت بفكر في حاجة تانية. مخدتش بالي من اللوحة أصلا. دا غير أن چيچي قالتلي عن السعر الغريب الذي اشتريت بيه اللوحة ، بص أنا جعانة، عايزة أكل بيتزا . 

ــ بيتزا؟ فعلا؟

أومأت برأسي:

ــ بيتزا.

عندما سار إلى سكرتيرته ليطلب منها أن تطلب الطعام ، نظرتُ مرة أخرى إلى هذه السلحفاة البحرية. في هذه النظرة الثانية شعرتُ بشعور غريب للغاية. لها عينان بائستان. تفتح ذراعيها في محاولة للسباحة لأعلى، لكن للحظة تشعر وكأنها تحمل البحر والشمس والعالم كله على ظهرها.

بعد أن أكلنا، عدتُ إلى المنزل. عندما فتحتُ باب الشقة، وجدت خالد يبدأ في إعداد كوب من الشاي. وضعت حقيبتي فوق المنضدة. أخذت الغلاية من يده.

ـ خليني أعمله لك. 

ابتسم لي، وهو يتكئ على الحائط بجواري: 

ــ يومك كان حلو؟

ــ حلو، مفيش حاجة مهمة.

ــ نينا، خلينا نسافر الفيوم أسبوع أو 10 أيام. انتي معملتيش حاجة في البريك. أنا كمان محتاج وقت أقضيه معاكي. 

أعطيته الكوب وقبلته على خده .

ــ فكرة حلوة، لكن خلينا نعمل دا الشهر الجاي.

ــ ليه الشهر الجاي؟

كنت أعلم أنني بحاجة إلى وقت لاتخاذ قرار بشأن العديد من الأشياء التي لا يمكن مناقشتها معه، لأنه سيقدم حلولًا لا تناسب طريقتي في النظر إلى الأشياء كالمعتاد. بالإضافة إلى ذلك، لن يكون هذا رأيي أو جهدي. أتمنى أن يفهم ذلك يومًا. كذبت:

ــ لسة محتاجة أخلص حاجات تبع الشغل.

ــ تمام يبقي الشهر الجاي.

قال بينما يجذبني إليه.

 في تلك الليلة فكرت في هذه السلحفاة. الجو حار. رائحة الزنجبيل في عطره ملأت الغرفة. أحاول أن التقط نفسًا خفيفًا، لا استطيع. (لماذا لا تتوقف عن المقاومة وتذهب مع التيار)… نفسه المتسارع وجسده الملقى على ظهري أشعراني بشيء من الاحتجاز على غير العادة. (لماذا لا تغمض عينيها وتكف عن المثابرة، ستغرق لا محالة. المحيط، العالم كله فوق ظهرهالن تنجو، لن تستطيع)… أستطيع. لن أفعل. فعلتُ ذلك مرة، سألني إن كنت بخير. كان قلقًا علي، ظل يربت على ظهري بحنو بالغ. أستطيع… لن أفعل.. أغمضت عينيّ تمنيت أن تضيع أفكاري.. أن أتوقف عن المثابرة وأغرق. 

*******

أتت الشمس مشرقة. ومع ذلك كان يومًا شديد البرودة. جلستُ بجوار الحائط الزجاجي في مقهى هادئ بعض الشيء، مقارنة بصوت المدينة الصاخب. لا توجد سوى 3 طاولات مشغولة. قضيتُ وقتًا طويلًا في مراقبتها وأنا أنتظر قهوتي. في الجهة المقابلة، هناك طالبة جامعية يبدو أنها تركز بشدة فيما تفعل. الطاولة الثانية لأم وابنها الذي يبلغ من العمر 9 أو 10 سنوات، يكافح من أجل الحصول على الكمية المناسبة من السباجيتي في شوكته. بينما بدت والدته مشتتة بهاتفها. الطاولة الثالثة لرجل عجوز يحتسي قهوته ويقرأ الكتاب ببطء. انتظرتُ 20 دقيقة ليقلب الصفحة، قبل أن أفقد الأمل وأحول انتباهي إلى شيء آخر.

رأيتُه قادمًا من خلال الجدار الزجاجي، المقهى في الطابق الأول ، مما منحني فرصة جيدة للنظر إليه، بينما هو ليس قريبًا بما يكفي لرؤيتي. يرتدي معطفا من الصوف باللون الأزرق الداكن. شعره المموج أكثر سوادًا من أي شيء رأيته في حياتي. عيناه بهما خليط من شغب الأطفال والرصانة. عدا أنه ترك ذقنه، لم يتغير منذ سبع سنوات. خطواته سريعة رغم أنه لم يتأخر. دخل من الباب، ونزع نظاراته الشمسية، ثم بدأت عيناه تتجولان في المكان حتى رآني.

ــ نينااا، أخيرا اتقابلنا!

. قال بصوت مرح ومفعم بالحرية، وهو يسحب الكرسي ليجلس. ابتسمت:

ــ أخيرًا ، أولًا وقبل كل شيء، عايزة أعتذر لك اني مكنتش بردّ الفترة اللي فاتت. 

ــ هو انتي مش اعتذرتي في الفون وخلصنا؟ مش متضايق… دلوقتي على الأقل. انتي بقي إزيك؟ 

قاطعَته نادلة وسألَته عما يود أن يأخذ. 

ــ دبل اسبريسو، من فضلك. أو خليهم اتنين، آيس لاتيه عليهم واحدة موكا بس، شكرًا.

 نظر لي:

ــ خلينا نجرب ذوقك المرة دي.

كانت عيناه مليئتين بالسلام. على الرغم من أنني اعتقدتُ أن الوقت ساعدني في استنزاف كل الحب الذي أكنه له ، إلا أن رؤية عينيه الآن تدغدغ قلبي بطريقة ما.

وجه لي كامل انتباهه مرة أخرى: 

ــ ها، وصلتي لقرار؟

تحدثنا عن أشياء مختلفة. لكنني حينما قلت إني بحاجة لأن أستعيد اتزاني، ابتسم وعلق:

ــ تستعيدي اتزانك! 

نظر إلى اللامكان لبضع ثوان ثم نظر في عيني:

ــ أنت مش عايزانا نتقابل تاني، صح؟

لم أعرف ماذا أقول. 

ــ مفيش داعي للكسوف، فاهم علي فكرة، كمان الموضوع عادل… إلى حد ما.

 أسند ظهره على الكرسي. جاءت النادلة لتضع اللاتيه:

ــ شكرا… أوووه ،مش وحش خالص على فكرة، طلع لطيف فعلا.

 رفع حاجبيه، ما زال يستكشف الطعم. 

ــ الموكا لذيذة خالص ، مغرية جدا ، و… بتختفي في ثانية.

ــ مبسوطة إنك حبيته.

كسر دقيقة صمت طويلة، بدأ بالكلام كأنني لم أقل شيئًا. تحدثنا عن حياته وعن بيوتنا وقت الطفولة. لم أدر كيف أخذنا الكلام لما حدث يوم الأربعاء. 

قاطعني:

ـ حرب إيه؟ 

ــ حرب العراق. 

أخبرتُه عن ذلك العميل… كان ضخمًا بعض الشيء، شعره ليس ممشطا. ورغم أن بذلته باهظة الثمن إلا أنه لم يكن مهتمًا بمظهره. لواء متقاعد خدم في الجيش الأمريكي وقت الحرب. لا أدري للآن لماذا قال لي ذلك. تحدث معي بالتفصيل عن المواقع التي كان مسؤولا عن مهاجمتها. قال لي حرفيًا إنه قتل أناسا أبرياء من أجل البترول. في بادئ الأمر ظننته مجنونًا أو سكران. نصحته بمحاولة طلب المساعدة. ابتسم وقال إنه يرى طبيبًا بالفعل. كان يثبت ما يقول، كان يذكر لي أسماء الأسلحة والطائرات الحربية. 

يمكنني سماع صوتي يصبح أكثر ضعفًا ، لكنني كنت بحاجة إلى مواصلة الحديث لإخراج كل ذلك من ذهني. 

ــ كنت مصدومة. حسيت أن جزء مني كان مخليني بتمنى أقول له حاجة مؤذية.. كنت مدركة أنه مش متزن نفسيًا ويمكن عقليًا، حسيت بغضب غريب… بس مقدرتش.

لم أشعر أن يدي بدأت ترتجف، حتى أمسكها علي بشدة، قبل أن يدرك أنه يضغط عليها. يخفف قبضته، لكنها ما تزال ملموسة وحقيقية بشكل فريد لا يمكن نسيانه. شعرتُ بأنني لم أعد أرغب في البكاء، وبدلًا من ذلك نظرتُ إلى يده. ومن ثم لعينيه. ربَّت برفق على يدي:

ــ كملي.

ــ الجزء الغريب هو إني كتبت من سنتين عن شخصية تاجر أسلحة. كنت حابة أكتب حاجة مختلفة، رسمت شخصية جريئة وحادة جدًا .لما كان العميل ده بيكلمني، كنت حاسة أنه هو نفسه الشخصية اللي كتبت عنها. نفس السخرية في الإجابات، نفس الوضوح والدقة و… الصدمة. فيه فوضى جوايا. كأنه جاي يجاوبني أنا تحديدًا عن السؤال اللي بسأله لنفسي عن وعي الجنود بالحرب، والجانب اللي بيحاربوا له. ليه الراجل دا يظهر لي بالندم الشديد ده؟ وليه مقدرتش أتعاطف معاه رغم أني مؤمنة أن الندم ممكن يكون طريق للتخلص من الخطيئة؟ حسيت وقتها أن الرجل دا كان جاي يديني الإجابة وبس. دا حتي مكملش الورق بتاعه قبل ما يمشي. بعد ما قال كل دا، ارتبك مرة واحدة. واعتذر كتير. وبدآ يكلمني بلطف غريب مكانش دا الشخص اللي بدأ المحادثة.

ــ كان وقح في الاول؟

ــ كان فظ.. معندوش صبر.. يعني، تحسه راجل عجوز لئيم رغم أنه في نص الخمسينيات تقريبًا.

ــ وشخصيتك كانت في نفس العمر؟

رفعتُ كتفي، وأومأت.

ــ تمام.

 يخدش ذقنه بأطراف أصابعه.

ــ كان عارف أنك عربية؟ أقصد أننا مصريين، مش عراقيين ولا كويتيين ، لكنه هيفترض أنك هتكوني متعاطفة مع العرب. 

أومأتُ برأسي:

ــ هنا بالضبط بدأ يتعامل معايا بلطف. قال إنه مقتلش أي مصري…

تنهد علي في سخرية.

ــ بدأ يعتذر عن الكلام في الحرب. تمنى لي مستقبل كويس . قال إني شاطرة في شغلي وطلب مني مخليش حاجة توقفني.

ــ وقلتِ له إيه؟

ــ قلت أن دي المرة الاولى اللي مش حابة فيها أكون لطيفة مع حد. قال: “أنا فاهم دا. آسف اني بوظت يومك .. سلام.” كان بائس!

ــ زي سلحفاة البحر بتاعة فؤاد؟

ــ أنا لحد دلوقتي مش قادرة أصدق إني عملت كده. أقولك اني مش هشوفك، وتاني يوم أكلمك في نص الليل عشان أدوشك باللوحة بتاعة السلحفاة.

ــ ولا يهمك. المهم دلوقتي هتعملي ايه مع سلحفاة البحر اللي بجد، أقصد العميل نفسه؟

ــ ولا حاجة. بحاول أنسى، بس بعَتّ استقالتي. 

ــ استقالة!

قال ضاحكًا:

ــ دا قرار صعب لأي شخص بيفكر بمنطق الحقيقة . بس أنتي عارفة؟ ده أنتى جدًا. طظ فيهم. اهربي.

 قال تلك الجملة الأخيرة بنبرة صوت أعلى، مما جعلني أضحك.

ــ بس أنا مش شايف أن تجاهل دا صح. أعتقد لو كان فيه سبب للجنون دا فهو الكتابة. انتي قلتي إنك حسيتي انه عايز يديكي إجابة، معاكي إجابة، إديها للناس. متشيليش الحمل دا يا نينا. أهل الحروب هم السلاحف مش أنت ، كل اللي تقدري تعمليه الكتابة والصراخ فيهم، ويا يفوقوا، يا يعيشوا الذنب “بما كسبت أيديهم”.

شعرتُ وكأنني أتنفس للمرة الأولى منذ يوم الأربعاء ذاك. 

ــ معاك حق؛ أنا مكنش لازم أمنع نفسي عن الكتابة، شكرًا جدًا

ــ عفوا جدًا، إحنا بقالنا هنا 5 ساعات ، مش غريب شوية على لقاء الوداع دا؟

 قال بنبرة إغاظة معتادة. ضحكنا.

نظرتُ إلى السماء من خلال النافذة المجاورة لي، ثم نظرت إلى عينيه.

ــ حابة اقولك أن اللي حسينا بيه حقيقي، تسميته مش مهمة. المهم هو إني ممتنة لوجودك. أنا هكون ديمًا هنا. مش هقدر أتخلى عن دا… مش هقدر أتخلى عنك. 

أتى صوته مليئا باللطف 

ــ انتي فاكرة إنك محتاجة بجد تقولي دا ؟ عارفة إحنا نعرف بعض من إمتي؟ 30 سنة. انتي فاكرة لون أكتر فستان كنتي بتحبيه لما كان عندك 7 سنين ؟ أنا فاكر، يا نينا. مش هتخلّى عنك. بس تقريبًا أنا كمان محتاج وقت “أرجع لاتزاني”. فاستمتعي بأيام قليلة هادية من غير مكالماتي المزعجة. 

أمسكتُ يده بسعادة، كنت قد نسيت آخر مرة شعرت بها. وقفت بعد بضعة دقائق وحشرت الهاتف في حقيبتي الصغيرة نسبيًا. مشينا كلانا عبر مخرج المقهى.

قال وهو يلمس ذراعي برفق:

ــ خليكي كويسة.

عانقته بقوة، سمعته يضحك. كنت بالكاد أشعر بذراعه التي أراحها برفق على ظهري ، بينما كنتُ أضع جبهتي على صدره. كانت دقيقة مليئة بسلام شهي، قبل أن أسحب نفسي منه ببطء.

كلانا ابتسم للاخر ابتسامة عريضة. مشيت بعيدًا مستمتعة بالبرد لأول مرة، حين علمت أن بإمكاني العودة إلى منطقة آمنة بقلب صديقي عندما أحتاج. ومنذ ذلك الحين ، أسير بخفة كلما أدرت وجهي بعيدًا عن الظلام. أستمتع بالأيام المشمسة. في الحقيقة أنا مهووسة بالدفء الذي تلقيه الشمس على كتفي العاريتين. لكنني أبدًا لن أحملها على ظهري مجددًا. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة وشاعرة مصرية، القصة من مجموعة “مايوقظ الرماد” الصادرة مؤخرًا عن دار العين .. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم