البوذا التائه

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسني حسن

لألف ألف سنة، ساح في الكون، والأكوان الموازية المتداخلة، خالداً. لم يكن تائهاً كما ذلك اليهودي البائس، الذي قضى عليه المحكوم بالصلب أن يمضي، تائهاً ضائعاً فاقداً لكل أمل في الإفلات من شرك الأبدية الجهنمي ذاك، بل كان العارف العليم بطريقه، وكذا باستحالة الإفلات، هو أيضاً! من شرك الطريق، من غواية الخلود، ومن قدر التيه المؤبد في العرفان.

– ومن يقدر على احتمال ثقل النيرفانا ولا نهائية خفتها الآسرة، يا أناندا؟

ركع التلميذ الشاب، طاوياً ساقيه القويتين من تحته، مريحاً كفيه المفتوحتين على فخذيه المشدودتين، عند قدمي المستنير وساقيه المتشابكتين على صورة زهرة اللوتس، أسفل شجرة التين نفسها، على شاطئ النهر البعيد ذاته. راح يفكر، باستغراق، في السؤال الذي طرحه البوذا على مخيلته‘ الغضة الفتية، الطامحة دائماً، إلى ما يقبع في الوراء الشفقي المخاتل، وفيما وراء ذلك الوراء. أدرك المعلم حيرة تابعه وظله المنسي في إهاب الشباب، وأشفق على نفسه فيه.

– لا أحد يا صديقي الصغير، ولا حتى قرينك الموغل في الزمان وما بعده، يمكنه احتمال الخلود.

– فما وصيتك، الآن، أيها الخالد؟

أرخى البوذا ستائر جفنيه على عينيه، وأمعن في الصمت العميق.

في فجر اليوم الثالث لغفو دائم اليقظة، وما إن تسللت إلى مسامع التلميذ الساهر أولى شقشقات عصافير الوادي وهي تنفض عنها أردية الليل، المظلمة الساكنة الثقيلة، حتى أدرك أناندا الجواب عن سؤاله المعلق بخرس أستاذه الخالد. فلسبب ما، وربما من دون أية أسباب أو علل على الإطلاق، فقد استعادت ذاكرته، بلذة سرية، غامضة وطاغية، صورة تلك الصبية المليحة التي قدمت له قدح ماء عذب مسكر مفرط الحلاوة عند النهر، تلك الصبية ذات القوام الممشوق، المترع بالوفرة والمخايل باللذات، والتي أهمل نداء عينيها، المكحولتين المزججتين، وفوران جسده هو، الأسمر المشدود المتوفز، مفضلاً متابعة السير على درب الخلاص رفقة الخالد!

ابتسم أناندا، ثم نهض ليطبع قبلة وداع فوق جبهة سيدهارتا الغافي، قبل أن يدير له ظهره راجعاً إلى هناك. همس لنفسه برضا وتسليم، وبشئ من التهكم المجترئ:

– وذرة الغبار، التافهة الضئيلة، كما النجم، العظيم المشع، يبهظهما توق الخلود، وشغف التبدد.

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب