حروب منسية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 45
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خالد السنديوني

شبوة الهادئة كانت تظن أنها أمنت  من اللصوص وقطاع الطرق وغزوات الغيب وهجمات كلاب الجبال المتوحشة، متخفية وراء ناطحات سحاب قديمة من الطين، لكن الخطر أحيانا يأتي من أماكن لا يمكن تخيلها، شبوه لم يولد بها  نبي  ولا زعيم ولا  ملك من ذهب بل ولد بها  عمران بافيل  كل مايملكه هو نظراته الحادة وصمته الذي ينتمي إلى  ذلك النوع الذي يحرك الأشياء عن بعد

لا أحد يستطيع التكلم معه في  الصباح  حي يبدأ عمران بالكلام، رغم أن أبوه مازال على قيد الحياة،  تناول فطوره المكون من الدخن  على عجل  وهو مقطب الجبين كعادته، دخن سيجارة  وهو ينظر شارداً من النافذة  إلى جبال شبوه العالية المشوبة باللونين الاحمر والازرق دون أن يتحدث وهم بالخروج  مودعا زوجته بهمهمات غامضة لا تفهم أكثر منها كلمات.

ليس لديه خطة لليوم ولا غدا ولا مكان يذهب اليه، عند با ب الدار  يفاجأ الرجل بجارتهم الحسناء التي يراها لأول مرة وقد جاءت تسأل عن زوجته  – سؤالها عن زوجته لم يكتمل – لأمر ما تناساه الزمن، لأمر ما هي نفسها لن تتذكره بعد ذلك  طوال العمر، لماذا جاءت إلى بيت جارتها  في ذلك الصباح.

تسمرت عينا عمران في  عيني تلك المرأة للحظات لا أحد يعرف طولها لكن يبدو أن رسائل مشفرة خطيرة تم تبادلها بينهما، وعود الحب الغريبة عن تلك البراري خطة مفصلة  قامت من لاشىء، معاهدة سرية كاملة البنود لا تتحمل التأخير، برق سماوي انزرع في الارض وأخفي الجميع،  الأمر كان طاغيا والقدر حضر هذه المرة  بكل أسلحته كما لم يحضر من قبل، عمران لم يرد على سؤال المرأة عن زوجته بل اقتادها من ذراعها وهو ينظر في عينيها وصعد بها إلى أعلى  غرفة في ذلك البرج الطيني الحصين  حيث تناسلت أجيال عائلة بافيل والمرأة كأنها  منومة مغناطيسيا صعدت معه بعد أن أغلق كل الأبواب مع العالم بإحكام.

استند عمران إلى الجدار، ملامحه تحولت تدريجيا من السعادة إلى الجدية بينما يعود وعيه ببطء لكن ليس ليصحح  خطأه بل كي يستعد لحرب طويلة.

بينما جلست هي مجمدة في ركن الغرفة شبه الفارغة  قسم شعاع الشمس الذي ينزل من كوة في الحائط وجهها إلى  نصفين يجمعهما  أنين خافت، نصف في النور ونصف في الظل، نظراتها تشتعل بالخوف والاثارة والدموع، هي أمام فارسها  الذي جاء  أخيرا  ولو حتى إلى  الزمن الخطأ، للحظات لم  يسمع في الغرفة سوى أنفاسها  تختلط مع صوت تعمير عمران  لبنادقه الثلاث بالرصاص الحي –لم يفزعها ولم يحاول الاقتراب منها  بل  أحست بغريزتها أنه  مجرد عاشق من طراز إجرامي لكنه صادق على  وجهه ابتسامة غريبة، جسده وأحاسيسه  كانت تشبه كومة من  البخور تعرضت فجأة للنار، فتحول إلى لهب بلا عقل،  لكن سريعا، أسرع مما يتخيل الجميع سوف ينتقل الحريق الى  كل مكان

لأول مرة تشعل النظرات فتيل حرب قبلية، بدأ الضجيج فجأة بعد ثلاث ساعات  بدأت التحصينات  في القلعة الطينية المجاورة، لكن الجديد في هذه الحرب الخاطفة أن أباه  واخاه  التحقا بمعسكر الاعداء مع قبيلة المرأة وزوجها – زوجها الذي سوف يغادر شبوه لاحقا ويختفي إلى الأبد – بأسلحتهم الثقيلة ويروى أنهما أول  من أطلق النار على  منزلهما  الخاص،

حرب شلت المدينة الصغيرة لثلاثة أيام وإطلاق النار  لا ينقطع،  لكن تفاصيلها لم تكن  هي السر الذي  سوف يبحث عنه  الناس لاحقا وعلى مر الزمان ولكن  ماذا دار بين عمران وحبيبته خلال تلك الأيام الثلاث.

وهاهي تخرج من الركن المظلم في الغرفة الذي يكشف نصف وجهها فقط  وهي تبكي،  نفذت الذخيرة منه وساد صمت طويل كانت الأصوات الرتيبة تسقط بداخله مثل أحجار في بئر عميق  وكان  طين جدران البيت القديم  يقاوم  قسوة الطلقات  التي تأتي من كل مكان ناولته بيدها  فجأة آخر 3 رصاصات وهي تنظر في عمق عينيه  فيبتسم  لأول مرة وحشا بها بندقيته وواصل إطلاق النار على القبائل، إنه فارسها الذي جاء متأخرا إلى الزمن الخطأ لكنه جاء.

جاء أبوه وأخوه وهما يضعان التراب  على رأسيهما  ويتمنيان موته فقد ألحق بهما العار إلى الأبد يحاولان أن يشرحا له الجرم الشرعي والقبلي الذي  ارتكبه،  لقد اختطف امرأة متزوجة  كان يرد  بلهجة شبوه الحاسمة بصوته  المجهول لندرة  مايسمع – لا أعرف شيئا عن زوجها  وهي كذلك، انتهى الأمر.

طوال أربعين عاما  فشلت النساء في استدراجها في الكلام  كي تحكي التفاصيل ومنع على  الأبناء والأقارب  السؤال عن ماحدث  فما زالت نظرات  عمران  تقبض على  كل شىء حتى وهو في الثمانين  من عمره وأصابعه  تتحسس من وقت لآخر ماتبقى  من آثار تلك المعركة في جدران البيت الطيني، لديه منها 4 رجال لايجرؤ أحد منهم على ذكر تلك الأيام الثلاثة كأنها سر حربي، هو موضوع غير مطروح أصلا.

لم تتفوق حادثة على  حادثة عمران في أنحاء الجزيرة إلا قصة تركي العتيبي الذي فعل نفس الفعلة المجنونة لكن حبيبته وأم أولاده  العشرة المستقبلية  اختطفها على ناقة من بين أهلها من وسط  الشعائر المقدسة في مكة في أيام التشريق،  سريعا  طارده شباب القبيلة  لكنه تمكن من الفرار بها إلى المدينة لخبرته بالدروب الصحراوية، عادت لأهلها بعد 30 عاما  وسط قافلة  من 10 سيارات يقودها عشرة أبناء كي تزور أهلها  لأول مرة، قبيلة في مقابل قبيلة.

هذه المرة أيضا لم يجرؤ احد على أن يفتح فمه،  كان الوقت  قد مضى على اللوم وكان من الأسهل إشعال النار و ذبح الذبائح والجلوس حول النار في الليل وتبادل الأسماء.

من ذلك الزمن أصبحت  القبائل تميل أكثر إلى  تغطية وجوه الحسناوات  فالرجال قلوبهم ضعيفة وأسهل عليهم الضغط على زناد البنادق وإطلاق النار عن تحمل الحسن الطاغي، تلك  حروب صغيرة منسية  لسبب ما لم تتحول إلى حكايات.

مقالات من نفس القسم