عندما سمع [الكاتب الأمريكي] جون أبدايك بوفاة إيتالو كالفينو في سبتمبر من عام 1985، قال: إن «كالفينو كان كاتبا لطيفا بقدر ما كان عبقريا. ولقد سبق بالقص إلى أماكن جديدة لم يصل إليها من قبيل، وارتد به إلى منابع السرد الرائعة العتيقة». وفي ذلك الوقت كان كالفينو هو الكاتب الإيطالي البارز الذي وصل أثر رواياته وقصصه الفنتازية بعيدا إلى ما وراء البحر المتوسط.
قبل ذلك بعامين، كانت مجلة «ذي باريس رفيو» قد كلَّفت وليم ويفر بإجراء حوار مع كالفينو ينشر ضمن سلسلة حوارية بعنوان «الكاتب أثناء عمله»، وويفر هو مترجم كالفينو التاريخي إلى الإنجليزية. غير أن ذلك الحوار لم يكتمل قط، وإن أعاد ويفر كتابة مقدمته في الفترة الأخيرة على سبيل التأبين. ولكن باريس رفيو اشترت لاحقا تفريغ حوار متلفز مع كالفينو (من إنتاج وإخراج دميان باتيجرو وجسبار دي كارو) وسيرة كتبها الناقد الإيطالي بييترو سيتاتي. وما يلي هو صورة ما، مؤلفة من لصق هذه الأقسام الثلاثة معا علاوة على تفريغ لأفكار كالفينو قبل إجراء الحوار معه.
روان جايذر ـ 1992
***
أن تكون مترجما لإيتالو كالفينو
وليم ويفر
ولد إيتالو كالفينو في 15 أكتوبر 1923 في سنتياجو دي لاس فيجاس، إحدى ضواحي هافانا. كان أبوه ماريو عالما زراعيا قضى عددا من السنين في بلاد استوائية، أغلبها في أمريكا اللاتينية. أما إيفا والدة كالفينو فهي من سردينيا، وهي الأخرى كانت عالمة متخصصة في النباتات. ما كاد يولد ولدهما حتى عاد آل كالفينو إلى إيطاليا واستقروا في ليجويرا التي ولد ونشأ فيها البروفيسير كالفينو الأب. في نشأته كان كالفينو يقسم وقته بين بلدة سان ريمو الساحلية التي كان أبوه يدير فيها محطة لتجارب استزراع الزهور، ومنزل العائلة الريفي في التلال التي كان كالفينو الأب رائد استزراع الجريب فروت والأفوكادو فيها.
درس الكاتب ـ باعتبار ما سيكون ـ في سان ريمو ثم التحق بكلية الزراعة في جامعة تورينو فلم يبق فيها إلا إلى حين حلول أول الامتحانات. ولما احتل الألمان ليجويرا وبقية شمال إيطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية، هرب كالفينو وشقيقه البالغ من العمر ستة عشر عاما من التجنيد الفاشي وانضموا للثوار.
بعد ذلك بدأ كالفينو الكتابة عن تجاربه الحربية. نشر قصصه الأولى واستأنف كذلك دراساته الجامعية بعدما انتقل من الزراعة إلى الأدب. وفي تلك الفترة كتب روايته الأولى «الطريق إلى عش العناكب» [The Path to the Nest of Spiders] وتقدّم بها إلى مسابقة كانت ترعاها شركة موندادوري للنشر. ولم تفز الرواية في المسابقة لكن الكاتب تشيزاري بافيزي سلمها للناشر جيلو أيناودي في تورينو فقبلها، ونشأت علاقة مع كالفينو لتستمر على مدار أغلب حياته. عندما صدرت «الطريق إلى عش العناكب» سنة 1947 ـ وهي السنة التي حصل فيها كالفينو على شهادته الجامعية ـ كان قد بدأ بالفعل يعمل لحساب أيناودي.
في فترة ما بعد الحرب كان الوسط الأدبي الإيطالي ملتزما التزاما عميقا بالسياسة، وكانت تورينو ـ العاصمة الصناعية ـ مركزا وبؤرة. انضم كالفينو للحزب الشيوعي الإيطالي وكان يكتب مندوبا لجريدة الحزب اليومية في شركة فيات.
بعد صدور روايته الأولى، حاول كالفينو بضع مرات أن يكتب رواية ثانية، ثم لم يحدث حتى عام 1952 ـ أي بعد مرور خمس سنوات ـ أن أصدر عملا آخر هو رواية «الفسكونت المشطور» القصيرة. حظيت الرواية برعاية إليو فيتورينوي ونشرت في سلسلة كتب مخصصة للكتاب الجدد تحمل اسم توكنز، وحظيت على الفور بثناء كتّاب المراجعات الصحفية، على الرغم من أن انفصالها عن الأسلوب الأميل للواقعية في روايته الأولى قد أفضى إلى انتقادات من الحزب الذي استقال منه سنة 1956 إثر غزو الاتحاد السوفييتي للمجر.
في عام 1956 أصدر كالفينو مجموعة من الحكايات الشعبية الإيطالية. وفي العام التالي نشر «بارون الأشجار» ثم «الفارس اللاموجود» سنة 1959. وقد جمعت هاتان القصتان مع الفسكونت المشطور في كتاب عنوانه «أسلافنا». في عام 1965 أصدر كتابه Cosmicomics، وفي عام 1979 ظهرت روايته أو (لاروايته) «لو أن مسافرا في ليلة شتاء». ثم كانت آخر الأعمال الصادرة في حياته هي رواية «السيد بالمار» (1983)
توفي كالفينو في 19 سبنمبر 1985 في مستشفى بـ سيينا بعد ثلاثة عشر يوما من إصابته بجلطة.
التقيت بكالفينو للمرة الأولى في متجر للكتب بروما، في وقت ما من ربيع 1965، وفي ذاكرتي البصرية أن كلينا كنا نرتدي بذلات خفيفة. كنت أعيش في روما لما يربو على عقد، وكالفينو كان قد رجع إلى المدينة لفترة قصيرة فقط من قبل، وذلك بعد إقامته فترة طويلة في باريس. سألني فجأة ـ ولم يكن قط رجل ثرثرة ومناورات ـ إن كنت أحب أن أترجم كتابه الأخير Cosmicomics. برغم أنني لم أكن قرأته، قلت له نعم على الفور. واشتريت نسخة قبل أن أخرج من المتجر ورتبنا أن نلتقي مرة أخرى بعد أيام قليلة.
كان يعيش مع أسرته في شقة صغيرة حديثة التجهيز في الحي القروسطي من المدينة قرب نهر التيبر. شأن بيوت كالفينو التي تهيّأ لي أن أعرفها لاحقا، كانت الشقة تعطي الانطباع بأنها متناثرة الأثاث، قليلته، أتذكر منها جدرانها شاهقة البياض، وطوفان ضوء الشمس. تكلمنا عن الكتاب الذي كنت قد قرأته قبل لقائنا. علمت أنه استعان بمترجم إنجليزي، واستبعده، وكنت أريد أن أعرف سبب استبعاده زميلي. وبتهور أطلعني كالفينو على المراسلات. كانت في الكتاب قصة عنوانها «بلا ألوان». وكان المترجم في سعي أعمى إلى الأصالة قد عنونها بـ «بالأبيض والأسود»، فأشارت رسالة الاستبعاد التي بعثها كالفينو إلى أن الأبيض والأسود لونان. وقبلت المهمة.
كان لأولى ترجماتي لكالفينو تاريخ عصيب. فالمحرر الذي كان يتولى ترجمتى ترك الناشر بينما كنت أنهي ترجمتي، وبنصيحة مؤسفة مني، انتقل كالفينو مع المحرر إلى الشركة الجديدة. ثم حدث أن انتحر المحرر، وتراجعت الدار عن نشر Cosmicomics ، وما كانت الدار السابقة لتقبلنا من جديد، وضل الكتاب طريقه. فرفضه ناشرون آخرون، إلى أن قبلته هيلين وولف في هاركورت بريس جوفانوفيتش، لتبدأ رحلة ارتباط كالفينو الطويلة مع الدار. حظي الكتاب بمراجعات نقدية متوهجة (واستعراض شرس وحاد كتبه كما يمكنكم أن تتوقعوا المترجم الأول المرفوض) وفاز بالجائزة الوطنية للكتاب في الترجمة.
منذ عام 1966 وحتى وفاته لم يمض عليّ وقت تقريبا دون أن أكون مشغولا بترجمة شيء له (أو بالاستعداد لترجمة محتملة). في أحيان كان يتصل بي ويطلب أن أترجم له بضع صفحات بأقصى سرعة، ويكون ذلك على سبيل المثال بيانا كتبه لبرنامج تلفزيوني كندي أو مقدمة قصيرة لكتاب عن الموصلات الكهربائية. كان يحب تلك المهام الغريبة، فقد ولدت «قلعة المصائر المتقاطعة» (1966) من تعليق له على مجموعة من كروت التاروت ترجع إلى عصر النهضة.
مع كالفين كان لا بد من مراعاة كل كلمة. كنت أتردد دقائق كاملة أمام أبسط الكلمات ـ كـ bello (جميل) أو cattivo (رديء). كان لا بد من تجربة كل كلمة. وحينما كنت أترجم «مدن لا مرئية»، كان لا بد لمن يحلون ضيوفا عليَّ في الريف أثناء الإجازات الأسبوعية أن يستمعوا إلى مدينة أو اثنتين تتليان عليهم.
والكتّاب ليسوا بالضروة حنونين على مترجميهم. فقد كان ينتابني شعور في بعض الأحيان بأنه لو بيد كالفينو لآثر أن يترجم كتبه بنفسه. وفي السنين الأخيرة كان يحب أن يرى مسودات الطباعة الخاصة بالترجمة، فيدخل تعديلات، بلغته الإنجليزية. ولم تكن تلك التغييرات تصحيحات بالضرورة، بل مراجعات، وتعديلات على نصه. وكانت إنجليزية كالفينو نظرية أكثر منها اصطلاحية. كما كان يقع في غرام بعض الكلمات الأجنبية. فعند ترجمة السيد بالمار وقع في غرام كلمة «التغذية الارتجاعية feedback «. ظل يقحم التغذية الارتجاعية في النص فأتعقبها وأحذفها بلباقة. لم أستطع أن أوضح له أن التغذية الارتجاعية شأن الكاريزما charisma والمدخلات input والقعر bottom line قد تكون جميلة صوتيا في أذنه الإيطالية لكنها ليست ملائمة لعمل أدبي باللغة الإنجليزية.
ذات أصيل أغسطسي سنة 1982، ذهبت إلى بيت كالفينو الصيفي، وهو عبارة عن فيللا واسعة حديثة في مجمع سكني معزول بـ بروكامير على ساحل بحر توسكانيا في شمالي جروسيتو. بعد تبادل التحيات، جلسنا على كراسي وثيرة مريحة في الشرفة الظليلة الواسعة. لم يكن البحر ظاهرا، لكن كان محسوسا في الهواء اللاذع المحمل برائحة الصنوبر.
لم يكن كالفينو في أكثر الأوقات كثير الكلام، ولا اجتماعيا على الإطلاق. فلم يكن يميل إلا إلى مخالطة أصدقائه القدامى أنفسهم، وزملائه في دار نشر إيناودي. وبرغم أننا كنا نعرف بعضنا بعضا لعشرين سنة، ونتزاور في بيتينا، ونعمل معا، إلا أن أحدا منا لم يكن موضع أسرار الآخر. بل لقد كنا حتى أوائل الثمانينيات نتخاطب برسمية، فأناديه بسنيور كالفينو، ويناديني بويفر دون أن يعرف كم أكره مناداتي باسم العائلة التي كانت تذكرني بأيام المدرسة الإعدادية. وحتى بعدما انتقلنا إلى مرحلة الأسماء الأولى، كان يتصل بي في البيت فأشعر بسكتة قبل أن ينطق «بيل؟». كان به شوق جارف إلى الرجوع لأيام ويفر.
لا أريد أن أعطيكم انطباعا بأنه لم يكن يستطيع أن يكون ودودا. فمثلما أتذكر صمته أتذكر ضحكه الذي كان ينبعث من شيء يحدث أثناء عملنا معا. وأتذكر هدية أهدانيها، هي إصدار صغير أنيق عن لوحة حديثة الترميم لـ لورنزو لوتو من سان جيروم. كتب كالفينو في صدر الكتيب «إلى بيل، المترجم القديس».
لا أزال أشعر كلما فكرت في ما مضى كم كنت أقتحم حياته.
**
أفكار قبل الحوار
إيتالو كالفينو
أقول لنفسي كلَّ صباح، لا بد أن يكون هذا اليوم منتجا، ثم يقع شيء يحول دون الكتابة. اليوم … ما الذي يمكن أن أفعله اليوم؟ أوه، نعم، يفترض أنهم قادمون لإجراء حوار معي. أخشى أن روايتي لن تتحرك ولو خطوة واحدة إلى الأمام. فدائما يقع شيء ما. كلَّ صباح أكون على علم بأنني قادر على إهدار اليوم كله. فدائما يوجد ما يمكن القيام به: الذهاب إلى الضفة، إلى مكتب البريد، دفع بعض الفواتير … دائما توجد ورطة بيروقراطية ما عليّ أن أتعامل معها. وبينما أنا بالخارج أقوم أيضا ببعض المهام مثل التسوق اليومي: فأشتري الخبز أو اللحم أو الفاكهة. أولا أشتري الجرائد. ولا يكاد الواحد يشتريها حتى يبدأ في قراءتها بمجرد عودته إلى البيت، أو يطالع العناوين على الأقل ليقنع نفسه أنه لا يوجد ما يستحق القراءة. كلَّ يوم أقول لنفسي إن قراءة الجرائد إهدار للوقت، ثم يحدث أن … لا أستطيع الاستغناء عنها. هي كالمخدرات. باختصار، لا يحدث قبل العصر أن أجلس إلى مكتبي، الغارق دائما في الرسائل التي تنتظر أن أرد عليها منذ وقت لا أستطيع حتى أن أحدده، وهذه عقبة أخرى ينبغي التغلب عليها.
وفي نهاية المطاف أجلس للكتابة فإذا بالمشكلات الحقيقية تبدأ. لو أنني أبدأ من العدم، فهذه أصعب اللحظات، لكن حتى لو كنت أكمل شيئا بدأت فيه منذ اليوم السابق فإنني دائما أصل إلى الطريق المسدود حيث تظهر عقبة جديدة يجب التغلب عليها. ولا يحدث إلا في فترة آخر العصر أن أبدأ في كتابة جمل، وتصحيحها، وغمرها بالعصارة، وملئها بالعبارات الاعتراضية وأعيد كتابتها. وفي تلك اللحظة بالذات يرن جرس التليفون أو الباب في العادة، وإذا بصديق أو مترجم أو محاور قد وصل. وعلى ذكر الـ .. عصر هذا اليوم … محاورون. لا أعرف هل سيتاح لي وقت للاستعداد. بوسعي أن أجرب الارتجال، لولا أنني أعتقد أنه لا بد من التجهيز للحوار مسبقا حتى يبدو عفويا. فنادرا ما يطرح المحاور أسئلة لا تعرف إجاباتها. ومن الحوارات الكثيرة التي أجريت معي خلصت إلى أن الأسئلة جميعها متشابهة. يمكنني كل مرة أن أرد بنفس الردود. ولكنني أعتقد أن عليّ أن أغيّر إجاباتي، لأن شيئا ما يتغير مع كل حوار، إما في نفسي أو في العالم. والإجابة التي كانت صحيحة في المرة الأولى قد لا تكون صحيحة في المرة الثانية. وقد تكون هذه انطلاقة كتاب. أتلقى قائمة أسئلة، متماثلة كل مرة، وكل فصل يحتوي الإجابات كما أجيبها في أوقات مختلفة. التغييرات تحتوي الإجابات التي أجيب بها في الأوقات المختلفة. تصبح التغيرات هي المسار، هي القصة التي يعيشها البطل. ولعلي بهذه الطريقة أكتشف حقائق عن نفسي.
لكن عليَّ أن أرجع إلى البيت، فموعد وصول المحاورين يوشك على الحلول.
ساعدني يا رب.
……………….
*نقلا عن صحيفة “عمان”