15 عاماً مع إبراهيم فرغلي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هايدي عبد اللطيف

أن تكتب عن شخص قريب منك، تعيش معه، تقاسمه حياتك ليس أمراً سهلاً. وخصوصاً لو كان روائياً، فماذا يمكن أن أكتب؟!!! لن أتمكن من الكتابة عن رواياته وتحليلها لأسباب عدة. بالنسبة لي إبراهيم فرغلي أكثر من صحفي وروائي أو حتى زوج، فهو صديق أولا وشريك حياة ثانيا، تقاسمت معه 15 عاما، شهدت، في اعتقادي، انطلاقته الصحافية واكتمال شخصيته الروائية ووضوح موهبته.15 عاما بدو رقما مثل تأبيدة لكنها بالنسبة لي كانت تأبيدة سعيدة أثمرت بنتين من أجمل الكائنات، ليلى وعالية، أما بالنسبة له كأي مبدع بالطبع كانت سجناً دخله بقدميه ولا يمكنه الفرار.. 15 عاماً ليس رقما هينا لكنني سأحاول في هذه السطور القليلة أن أتأملها واكتشف فيها ما تعلمته منه كإنسان أولاً وأخيراً.

ابراهيم فرغلي من أكثر الرجال الذين قابلتهم في حياتي وخصوصا من المثقفين، يتمتع باتساق بين آرائه وأفكاره، يطبق ما يكتبه سواء من أراء شخصية في مواقع التواصل الاجتماعي أو في مقالاته وبالطبع رواياته في حياته الشخصية، يقدر المرأة ويمنحها حريتها التامة، وهذا كان سر انجذابي له في بداية قصة الحب التي جمعت بيننا منذ مطلع لعام 2000، بالإضافة بالطبع لطموحه الذي لا حدود له كروائي.

عندما التقيت إبراهيم كان يشق طريقه في عالم الصحافة، محرراً في قسم الثقافة بمجلة “لأهرام العربي” ثم في صفحة الكتب الأسبوعية في صحيفة الأهرام اليومية، لكن طموحه في أن يؤكد موهبته كروائي ويحفر اسمه بين أبناء جيله كان لا حد له، فأخذت عهداً على نفسي أن أسانده بكل الطرق وألا أقف في طريقه وأتمنى أن أكون فعلت..

هذه الموهبة والطموح الكبيران يحركهما قدر كبير من الالتزام والجدية في العمل، فإبراهيم شخص دؤوب في عمله بشكل يبهرني وكان هذا الدرس الأول الذي تعلمته منه: قدسية العمل واحترامه.. لذا فهو أيضا يحترم عملي ويقدره ولا يشكو من طول ساعاته خصوصا في الكويت، يتحمل مسؤولياته كزوج وشريك بصدر رحب أحيانا، وساخط كثيرا، لكنه في النهاية زوج متعاون ولطيف ليس له طلبات صعبة أو مزعجة لأي زوجة.. طلبه الوحيد فقط أن يحصل على حريته في ممارسة الكتابة، الوقت الكافي، وبالمناسبة لا وقت يكفيه أبدا ولا يعترف بأنني أتغاضى كثيرا عن كونه غير متواجد بالمنزل لانشغاله بالكتابة في أحد المقاهي والذي يجعل منها دائما وطنه الخاص.. عندما تريد إبراهيم فرغلي ابحث عنه في مقهى، كافيه وليس مقهى شعبياً.. فهو يحمل سمات أرستقراطية نوعا ما.. وطوال سنوات زواجنا لم تزعجني مطلقا رغبته في أن يكون له وقته الخاص، فأنا أيضا أعشق مساحتي الخاصة، أحب أن يكون هناك وقت لنفسي بعيد عنه وعن البيت والبنات وهو يتقبل ذلك.

كما اعتدت منذ مجيئي للكويت أن أسافر في عطلات للقاهرة وحدي وهو أيضا، وكنت أردد دوما أننا نحتاج لإجازة زوجية من بعض وأعتقد أنها فكرة ناجحة..

اتساق إبراهيم مع آرائه وذاته يتضح أيضا في تقبله لوجود صداقات في حياتي مع زملائي في العمل أو حتى من معارفي الرجال، ولا ينزعج منها بل بعضهم يصبح أصدقاء له، وأنا أيضا لا تزعجني صداقاته مع النساء. كما يتقبل اختياراتي من الأصدقاء حتى لو كان رأيه مناقضا لرأيي..هذا الاتساق والتوافق بين ما يكتبه أو يقوله ويردده وما يعيشه على أرض الواقع لفت نظري إليه وحببني فيه منذ بداية علاقتنا، ووجدت أخيرا صديقة مقربة تحدثني في ذلك حيث كانت تخبرني أنها تسعد بالحديث مع زوجي، وهي صديقة مشتركة لي وله، وأكدت لي اعتزازها بصداقته وانها تراه رجلا محترما، على العكس من شخصيات كثيرة قابلتها في حياتها، من الأدباء والشعراء مدعي التحرر والليبرالية، فابراهيم من وجهة نظرها متسق مع ذاته، تتفق أفكاره وتصرفاته.. يتقبل الآخر ويتعامل مع الإنسان وليس النوع أو الجنس أو الدين أو المذهب.

إبراهيم برغم أنه يعتبر المقهى بيته ووطنه ويصنع من مقهاه عالمه الخاص والمفضل إلا إن ارتباطه كبير جدا بمصر التي لم يعش فيها سوى سنوات قليلة، فقد قضى معظم طفولته وشبابه وحتى سنوات نضجه في الخارج وخصوصا دول الخليج، وأتذكر حماسه وثورته أمام شاشة التلفزيون وقت أحداث 25 يناير 2011 وحزنه على عدم استطاعته التواجد في ميدان التحرير مع ملايين المصريين لذلك عندما سنحت له الفرصة خلال زيارة سريعة للقاهرة في ديسمبر من ذلك العام لم يترك الميدان حتى انه شارك في المسيرة التي تصدرتها النساء ودعت لها في أعقاب انتهاكات الجيش في أحداث مجلس الوزراء ديسمبر 2011. مسيرة نسائية سار فيها إبراهيم فرغلي بسعادة شديدة ليؤكد احترامه للإنسان أيا كان.

تلك الأحداث وما تلاها في السنوات الأخيرة كشفت عن أننا نردد دوما أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، لكنه قد أفسد علاقات كثيرة سببها عدم التوافق السياسي ورؤانا وتفسيراتنا المختلفة للاحداث لكنني كنت أرى إبراهيم يتأمل بعمق ويكون آراءه الخاصة ويدافع عنها بحدة أحيانا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لكنه برغم حدته التي لم أعهدها فيه بشكل عام لم يسعى لخسارة أي من أصدقائه المقربين أو أي ممن اختلفوا معه سياسيا. وكان بوعيه السياسي ورؤيته الأوسع والأشمل النابعة من ثقافة موسوعية مدرسة أخرى أتعلم منها بشكل يومي.  

فإبراهيم يعتبر مستشاري الخاص في العمل وحتى فيما يتعلق بتربية البنات التي نختلف فيها كثيرا لكن يحترم كل منا رأي الآخر، وأتذكر واقعة حدثت في بداية زواجنا لكنني اكتشفت لاحقا أنه كان على حق، فحين كانت ابنتنا ليلى عمرها شهر أو أقل اشترى لها كتاباً ب 80 جنيها وكان وقتها مبلغا كبيرا، وكأي زوجة مصرية تقليدية اعترضت، وبرغم حبي للقراءة والكتب لكنني لم أفهم وقتها كيف لطفلة عمرها أسابيع ان تحتاج إلى كتاب بل بررت اعتراضي بأن بطانية كان يمكن أن تكون أفضل.

لكن خلال فترة وجيزة وجدت ابنتي وعمرها تقريبا شهرين تمسك بالكتاب في يديها وتتأمله، تمسكه بطريقة صحيحة وليس مقلوبا، كان الكتاب مصنوعا من البلاستيك المبطن بالاسفنج، الذي يمكن لرضيع أن يمسكه من دون أن تمزقه فهو خفيف ومتين، وكان ابراهيم يجلس بجانبها دائما يمسك كتاباً ويقرأ لها.. وقتها وبعد ذلك عندما بدأ شغف بناتي بالقراءة، أدركت أنه كان على حق، فبالرغم من نشأتي في بيت يقدس القراءة وامتلاك والدي لمكتبة ضخمة، لكنني لم أكن أتمتع بذلك الشغف والبصيرة كروائي مثله.. ومن يومها وأنا أحيا وسط الكتب في غرفته وغرفتي وحتى غرفة البنات ولا أعترض، فهذا قدر زوجة الروائي والمثقف.

وقدر زوجة الروائي أيضا أو لدى بعض الزوجات وليس كلهن، ميزة أن تكون القارئة الأولى لأعماله، ليس ذلك بالضرورة، لكنني حظيت بهذا الشرف منذ بداية علاقتنا عندما حدثني عن فكرة روايته المقبلة وهي عن علاقة توأم كل منهما بالآخر، كيف يشعر كل احد بما يدور في حياة الثاني ويتأثر به حتى لو كان بعيدا عنه والتي كانت نواة روايته “ابتسامات القديسين” التي بدأ كتابتها في العام الأول لزواجنا ومنحني شرف قراءة الفصل الأول وهي ميزة استمرت حتى آخر رواياته “معبد أنامل الحرير” فأنا القارئة والناقدة الأولى أيضا لاعماله ماعدا روايته للفتيان “مغامرة في مدينة الموتى” التي كانت مستشارته الفنية لها، ابنتنا الكبرى ليلى، تقرأ كل فصل وتتناقش معه فيه. وقد لاقت تلك الرواية نجاحا كبيرا بين الفتيات والفتيان من أبناء العائلة والأصدقاء ممن قرأوها، ما شجعه على كتابة عمل ثاني لهذه المرحلة العمرية المهمة أعتقد أنه سيظهر للنور قريبا. وكان دافع إبراهيم فرغلي للتوجه نحو هذه الفئة العمرية ما وجده من شغف ابنتنا ليلى بقراءة كتب باللغة الفرنسية تحصل عليها من مكتبة المدرسة مخصصة لهذه الشريحة العمرية الحرجة وتذكر إبراهيم وجود كتب المغامرين الخمسة والشياطين ال13 التي قرأناها عندما كنا في مثل عمرها وبعدها ظهرت مؤلفات د. نبيل فاروق، رجل المستحيل وملف المستقبل. ما يجعلني أراه رائدا في جيله، فهو أول من كتب عمل ضخم تزيد صفحاته عن 500 صفحة وهي رواية أبناء الجبلاوي، واتجاهه لأن يكتب للفتيان بالإضافة لتجربة مجموعته القصصية الأخيرة ” شامات الحسن” التي تتميز بنصوص إيروتيكية أدبية ذات عمق وتجربة وحرفية لغوية.

 ولكن بما أنني قررت أن أتحدث عن الزوج والانسان وليس الصحافي أو الكاتب أو الروائي لن أنجرف للحديث عن أعماله فهناك من هم أكثر قدرة مني على ذلك وأنتقل لشخصيته كأب.. يحرص إبراهيم على أن يتواجد في حياة بناته بشكل معقول فهو يصطحبهم إلى المدرسة ومنها وأحيانا يوصلهم لصديقاتهم حيث تجمعه علاقة لطيفة بصديقات بناته وهن جميعا يقلن ذلك لليلى أن والدها شخص لطيف يحرص على أن يجمعه بهن حوار وهي من ميزة مهمة في علاقتنا وحياتنا وعلاقته بالبنات، إبراهيم شخص يجيد الحوار مع الآخر، يترك له المساحة ليتحدث ويستمع له جيدا ويعطي رأيا مفيدا، لأنه يتحمس لأي شيء يمكن أن تطلبه منه ويحرص على عمله بقدر استطاعته.

يملك فرغلي الكثير ليقدمه لك ليس على المستوى الإنساني فقط وإنما أيضا على مستوى الإبداع، بالرغم من إنجازه الأدبي الذي يعتبر معقولا، لكنه لا يراه كافيا لتحقيق طموحه، ما يشكل نقطة خلاف دائمة بيننا، لكن ذلك في رأيي هاجس كل مبدع. قدم فرغلي خلال 20 عاما تقريبا ثلاث مجموعات قصصية و7 روايات من بينها اثنتان للفتيان، إحداهما تحت الطبع، بالإضافة لكتاب رحلات وله كتاب آخر عن مقالاته في تحليل بعض الكتب والروايات ( قيد النشر). إنجاز في عالمنا العربي يعد معقولا حيث يعاني الأديب والكاتب من عدم استطاعته التفرغ للكتابة، بل يجب أن يمتهن مهنة أخرى لينفق منها على قوت يومه. وقد امتهن فرغلي الصحافة فبرع ونجح فيها منذ أن كان محرر تحقيقات بمجلة روز اليوسف وحتى أصبح معاون رئيس قسم بالأهرام وأخيرا عضو بمجلس تحرير مجلة “العربي”.

هذا الإنجاز يرى إبراهيم أنه كان يستطيع كتابة أضعافه لو كان متفرغا تماما، من دون قيود الزواج والانجاب اللذين يردد أحيانا أنهما شكلا عائقا أمام انطلاقته الأدبية، ولكنني أجيبه بأن أعظم إنجاز لنجيب محفوظ كان بعد زواجه وليس في أيام صعلكته، وغيره من الكتاب الذين أبدعوا بعد شعورهم بالاستقرار العاطفي والنفسي. وتعتبر هذه النقطة مثار خلافات بيننا، فكل زيجة ولها خلافاتها، ومهما كان إبراهيم فرغلي شخصا مميزا وزوجا رائعا له نقائصه أيضا التي لا تصنع منه قديسا، لكنها بالرغم من ذلك أتاحت لي الحياة مدة 15 عاما مع زوج لطيف وروائي متميز وكاتب عظيم وأب حنون.

                                                  عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم