14 محطَّة للوصول

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عمرو الرديني

يتخفَّفُ القطار من حملِه قليلاً في (إيتاي البارود).. ينزل بها العديد من أفراد جهاز الشرطة، أعرفهم من سيماهم.. بعضهم يُميِّزه الملابس الميري، سوداء في الشتاء، بيضاء بالصيف.. الآخرون يفضحهم الشارب الكث، والكيس الذي يحملون به ثيابهم.. لا يدفعون للمُحصِّل، الذي يعرفهم بدورِه، فلا يُرهق نفسه بسؤالِهم عن الكارنيه.
لا تُعلِّق فتاة (أبو حمُّص) على معلومتي التي ألقيتها عليها مُتطوِّعًا.. لكن لا يُثنيني ذلك عن المحاولة من جديد.. أنتظر قيام القطار مرَّة أخرى، وانتظام حركة الصعود والهبوط، والتنقُّل والجلوس.
تترك كتابها، تنشغل بالرؤية من النافذة المكسورة.. تنظر لاخضرار الزراعات، أودُّ لو أخبرها بأنَّ اخضرار عيناها أجمل.. تصعد بنظرِها للسماء، أحلم أنْ أقول لها بأنَّ صفاء وجهها أروع.. تتابع طائرًا بعيدًا، أتمنَّى لو تُدرك أنَّ قلبي الآن يُحلِّق مثله في الفضاء العريض.
أسألها فجأةً عن ماذا تقرأ؟ رغم وضوح الغلاف أمامي! تكتفي هي بأنْ تُقرِّبه ناحيتي أكثر كي يتسنَّى لي –إنْ كنت أعمى- أنْ أتبيَّن ماهيته.. لا أُبدي تفاعلاً.. رُبَّما أغاظني تصرُّفها، أظنُّها خرساء، وتظنَّني جاهلاً.. يزعجني التصوُّر الأخير.
أُسارع بقول: قرأتها من سنين..
ترتاب في أمري.. ترجع للغلاف الداخلي؛ لتتأكد من سنة النشر.. تقول لي:
– الرواية حديثة الصدور، إزاي تكُون قرأتها من سنين ودي طبعتها الأولى؟!
تستوقفني كلمة “صدور”؛ أتنقَّل بنظري بين صدرها وصدور زميلاتها الناهدات.. أُلقي عليها بالمفاجأة:
– لأنِّي اطَّلعت عليها وهي لسَّه مخطوطة.
لا يبدو أنها قد فهمتْ شيئًا، فأردفتُ:
– كاتبها صديقي؛ وقد تسنَّى لي قراءتها قبل أن يدفع بها للنشر.
بدا عليها الانبهار رغم التشكُّك:
– الكاتب صديقك؟ بجد؟!
أكتفي بهزَّةٍ من رأسي، مُؤمِّنًا على كلامها، وراسمًا دور الشخصية الهامَّة؛ لأسترد بعضًا من اعتباري.. تُعاود السؤال مُرتابة:
– يا ترى كان زميل دراسة؟
– لأ.. إحنا زملاء في نفس المجال، أنا كمان مؤلف.
تُصدم تمامًا.. تشملني بنظرةٍ مُتفحِّصة.. أذكُر لها عناوين أعمالي السابقة، وحتَّى اللاحقة.. تعتذر عن أنَّها لم تسمع عنهم، ولا عنِّي.. أناولها (كارت) شخصي؛ ليبثَّ الطمأنينة بداخلها، ولتكُون فرصة لتواصلٍ قد يمتد.. تسألني عن رأيي في الرواية التي بين يديها.. أجيبها بصراحة، محاولاً تغليف كلامي ببعض المصطلحات النقدية، من تلك التي أستمع إليها في الندوات.. تقع تحت تأثيري تمامًا.. أسألها أخيرًا عن اسمها، أجده “آية”.. أمتدحها والاسم، قائلاً:
– أنتِ آية فعلاً في الجَمالِ، والرقَّة..
تتجاوز مُجاملتي بسؤالي عن اسمي.. أضحك رغمًا عني، مشيرًا إلى الكارت بيدها.. تنظر إليه لتقرأ: “……. المنسي”.. تضحك بدورِها، لا أعلم هل من الاسم، أم خجلاً من حماقتها؟ يزيد إشراقها.. أبحث في حقيبتي عن شيءٍ ما.. أبتهج حين تلمسه أصابعي.. أخرج به مُنتصرًا.. كتاب لي.. أقدِّمه لها.. تكاد تطير من الفرحة.. تتحسَّسه بيدين مُرتعشتين.. أُوقن لحظتها أنَّ علاقتنا ستدُوم.. العلاقات المستديمة أدركها من بداياتها.. كلَّما كانت الصدف فيها قوية كلَّما كانت أجمل.. على عكسِ ما أدرسه في ورشة (السيناريو) التي أحضرها.. كلَّما زادت الصدف في الحبكة السينمائية كلَّما ضعف فنيًّا.
يرُوق لها الغلاف، ويعجبها العنوان.. تستفسر عن قصَّتِها، أطلب منها أن تؤجِّل فضولها حتَّى تقرأها.. تطمع في إهداءٍ مُزيَّل بتوقيعي.. أمسك بالقلم، وتنتقل الرعشة إليَّ.. أفكِّر قليلاً، بينما تتعجلني هي في لهفةٍ طفوليَّة.. تمرُّ لحظات أنقل فيها نظراتي بين وجهها ناصع البياض، وقد اكتسى بحُمرةٍ لطيفة، وبين الصفحة البيضاء في صدر الرواية، والتي سأكسوها بحُمرةِ قلمي.. تستوقفني الكلمة (صدر الرواية)! أهبط بنظراتي إلى صدرها، وأنقله إلى صدرِ الرواية، صدرها، وصدر روايتي.. ألهث مِن فَرطِ الرمَّان.. أقصد من فرطِ الرغبة، ثم أكتب فجأة بجرأةٍ:
{إلى/ فاتنتي، وسارقة عقلي وقلبي!}
وللحقِّ فقد كنت صادقًا إلى أقصى درجة؛ فيكفي إنَّه من شدَّةِ اندماجي معها لم أشعر بالوقوف في المحطَّة التالية، وكأن القطار يسير بنا منذ بدء الخليقة، وتمنَّيت في تلك اللحظة أنْ يُكمل مسيره إلى الأبد!.
…………………..
*فصل من رواية 14 محطة للوصول الصادرة أخيراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

طلة أمي

art 40
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المائدة