وإذا كان الرهان الجمالي في الديوان هو تلك اللحظة القصوى المكتفية بذاتها فإنه في كتاب يونس في أحشاء الحوت يفك طيات تلك اللحظات ويصل ويضفر بين امتداداتها المتباعدة زمنيا
الراوي في هذا الكتاب شغوف إلى أن يبدو دقيقا في ذكر التواريخ ومعالم المكان ومعلومات محددة عن الشخصيات قد تصل أحيانا إلى ذكر الاسم ثلاثيا أو التنقيب في القواميس عن معنى الاسم أو تحديد أن رواية سيد هارتا بترجمة أنور كامل،والتدقيق في وصف المأكولات متعددة الجنسيات في المول وغيرها من أشكال الدقة، ورغم هذا الشغف فإن هناك دائما شيئا يفلت من هذه الدقة ويستعصي عليها، هناك دائما ما يجذب كل هذه الدقة إلى منطقة في السرد يصعب تحديدها. وهذا الملمح هو ما يجذبني إلى تلك القصص ويدفعني إلى إعادة قراءتها.
وتلك المفارقة بين الدقة وما ينفلت منها ويستعصي عليها هي ما يختبرها ويعيشها الراوي في كل قصص الكتاب. فمع كل هذه الدقة نجد الراوي يكتب مثلا ” وجدتها واقفة بجواري، زميلتي في روضة الأطفال، عايدة رائد راضي. كان أبوها يملك صيدليةً بجوار منزلنا، ومع ذلك اختفت من حياتي بعدها، وظللت أذكر اسمها هكذا، ثلاثيا، مرتبطا بهذا الموقف فقط. كأن حضورها التاريخي قد جبه ومحاه حضورها اللحظي في ذلك الموقف الغابر”
فالحضور التاريخي لأحداث وشخصيات قصص الكتاب، والذي لا يتردد الراوي في إثباته وإعلانه قد تبدده وتجبه لحظة لا تكف عن الحضور رغم مرور الزمن. فاللحظة التي لا تنسى هي التي تظل قابلة لتأويلات مستمرة وقابلة إلى مواصلة الحياة رغم تباين المراحل التي خاضها الراوي.
كما أن هذه الدقة تشمل سرد الأحلام بتفاصيلها وتفسيرات الطبيبة النفسية لها، لكن في الوقت نفسه أو القصة نفسها “ترتيب الأرفف ” يكتب الراوي ” وكان العثور على هذا الشريط في الحلم بمثابة استرداد لقيمة مفقودة، أو قل مبعثرة.. ولست أدري هل حدث في الحلم نفسه، أم في حلم لاحق أني فقدت الشريط في النهاية، واستيقظت وأنا أقلب بين الأرفف باحثاً عنه. وكنت مقتنعا في صحوي، وربما لا زلت، أن ذلك الشريط الأبنوسي وجِدَ بين يدي ذات يوم..”
وليس الأمر هنا مجرد إزالة الفواصل بين الحلم والواقع فقط، وأن الشريط الذي حلم به له وجود خارج الحلم، بل إن تلك الدقة في ذكر التفاصيل والتفسيرات تتضمن ما لا نقدر إلا على الاقتناع بوجوده رغم عدم وجود دليل مادي عليه. وكأن هذا المستوى من الدلالات التي يصعب حصرها أو تسميتها في قصص الكتاب يتأكد ويمعن في الحضور كلما توغل الراوي أكثر في ذكر التفاصيل التاريخية والمكانية بدقة.