يوم آخر من النعيم

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.محمد الشحات  

أتصوّر أن جزءًا كبيرًا من بلاغة قصيدة النثر -مع تحفظّي الضمني علي مصطلح "البلاغة" بحمولته المعرفية المشدودة بقوة إلي مفاهيم التراث العربي المرتبط بصياغة وإنتاج تصوّرات قديمة عن الشعر والشعرية والشاعرية- هو قدرتها الدائمة علي التجدّد وممارسة اللعب والمراوغة التي لا تهدأ، إلي الحد الذي قد تصنع معه قصيدة نثرٍ ما الكثير من الدهشة، كما تصنع قصيدةٌ نثريّةٌ أخري الكثيرمن الصدمة المباغتة، خصوصا لدي قارئ تقليديّ الذائقة اعتاد أن ينتظر من القصيدة أن تكون ذات بداية ووسط ونهاية علي طريقة التصور الأرسطي للنوع الأدبي (سواء الغنائي أو الدرامي أو الملحمي).

من جهة مقابلة، سوف يصبح الهاجس الأكبر لدي شاعر النثر الموهوب هو اكتشاف الطريقة التي ينظم بها نصوصه بين دفّتي كتاب في نسق مخصوص يكشف عن رؤيته الجمالية أو الثقافية المائزة التي لا تكتفي بمجرد اجتماع عدد من القصائد الجيدة في متوالية ما، وحسب، بل الانطلاق من أرضية الطاقة الجمالية الناتجة عن هذه القصيدة أو تلك إلي بلوغ مرحلة أخري من تشكيل الرؤية الكلية الثقافية و/أو البصرية.

في هذا السياق، يسعي ديوان “يوم آخر من النعيم” لعبير عبد العزيز إلي تحقيق شعريته عبر عدد من الإستراتيجيات المتضافرةـ المتنامية، من الغلاف إلي الغلاف. أولها انشغاله بمدي التوازن الرهيف بين المفرات اللغوية والبصرية، أو بين قصيدة النثر التي تتكئ علي مفردات اللغة وقصيدة النثر التي تتكئ علي مفردات الصورة أو التشكيل الجمالي؛ الأمر الذي يجعلك تشعر أن ثمة قصيدة واحدة (صورة شعرية/ دَفَق شعري/ حالة شعرية) في كل صفحة يتم التعبير عنها باستخدام وسيطين جماليين مختلفين تماما، مع الحرص البالغ علي ألّا يُعيد أحدهما إنتاج الآخر بصورة حرفية، بل يسعي إلي مدّ الدلالة إلي أقصاها. ثانيها انسراب نفس سردي يبدأ بالمقطوعة الأولي التي تبدو وكأنها حوار أول بين آدم وحواء الجالِسَين -حسب مفردات اللوحة التشكيلية- في عالم سديمي، يتأمّلان الوجود واللاوجود أيضا، حيث تقول المقطوعة علي لسان المرأة التي تحدّق في الفضاء: “الكثير معكَ/ يعني أن نكون معًا/ أن يكون العالم بجانبنا/ نصنع المعجزات ونقذفها”.

وشيئا فشيئا، سيكون هذا العالم مخلوقًا من حيوانات أليفة وأطفال مشاكسين وحروب تتربّص بالجميع، ونسوة يرتدن محلّات التسوق في طقس يومي أبديّ، وجنود عائدين من معسكراتهم، وحكايات شعبية عن الدببة، وغزلان وقطط، .. وغير ذلك من ثيمات هنا وهناك. ثالثها انسراب الوعي النسوي الذي يُكثّف من حضور المرأة في أغلب المقطوعات، سواء في علاقتها بالرجل أو الابن أو في علاقتها بذاتها وجسدها، أو في علاقتها بالعالم والأشياء والموجودات. رابعها جعل المرأة معادلا موضوعيا ثقافيا للقصيدة، والقصيدة معادلا موضوعيا جماليا للمرأة، خصوصا في المقاطع الأخيرة التي تعكف علي محاولة تعريف “اللامعرَّف”، فالقصيدة كما تنطق المقطوعات الأخيرة: “مثل حبيب/ يهرب من النافذة/ عندما يرنّ جرس الباب./ القصيدة صابونة صفراء/ برغوة بيضاء/ تنفلت سريعا/ من شدة تدفّق الماء./ القصيدة نغزة في القلب/ ويد تبحث في الفراغ/ لتعود دائما بالقليل./ كم من شعراء وشعراء/ يقيمون الحواجز/ يبنون الأعشاش والأقفاص/ لظلال قصائد خاوية./ لكنّ القصيدة القصيدة/ تظل في الخارج”.

في قصائد هذا الديوان الصادر في طبعة خاصة عن مطبوعات “مشروع ستاند شعر”، دار طباعة الجزيرة (2017)، لا وجود للكلمة منفردة بذاتها، ولا للصورة الشعرية القائمة بنفسها في العالم، المنبتّة الصلة عمّا عداها من تفاصيل وإشارات وإيحاءات وموجودات، بل علي العكس من ذلك تماما، ثمة شكل من أشكال التناصّ أو التصادِي بين الكلمة والحركة وانحناءة الخط في اللوحة والكتلة النحتية القائمة في الفراغ. وهنا، بالضبط، تكمن خطورة تجربة الشاعرة المصرية عبير عبد العزيز في هذا الديوان التجريبي المغامر الجريء؛ إذ ليس ثمة قصائد بمعناها العضوي، أو البنيوي، ولا بمعانيها أو دلالاتها المكتفية بذاتها، بل هي قصائد نثرية مكثّفة للغاية، أو منثورات شعرية، متجاورة، متقاطعة، وممتدة أيضا، في متوالية دلالية وبصرية، تشبه المتتالية القصصية التي تتغيّا تجاور الثيمات والشخصيات والأمكنة في نسق كلّي يتشكّل شيئا فشيئا.

في ديوان “يوم آخر من النعيم”، لا عناوين للقصائد، ولا عناوين للوحات الموازية لكل قصيدة، فكلاهما عنوان للآخر، حيث مرجعية الصورة الشعرية تحيل إلي انحناءات المنحوتات السِّلْكية الموازية التي هي بدورها تمديد للمعني، وتوسيع للدلالة، وموضعة لها في أفقها الوجودي الأكبر. هكذا تنطق المقطوعة المُثبَتة علي الغلاف الخلفي للكتاب في دائرة من السلك المعدني الذي يُؤطّر الدلالة الكلية لمفهوم الشعر، والتي تقدّم تصورا خاصا عنه، حيث تقول: “مَن مِنّا يملك/ ترباسًا للقصيدة/ أو قفلًا بمفتاحين/ القصائد الحقيقية/ بلا ترباس/ أو قفل أو مفتاح/ هي فقط/ بوّابات ونوافذ/ متاهات../ رحلات لا حصر لها”.

لذا، لا تتعجب أيها القارئ عندما تعثر في هذا الديوان علي أشباه رجال ونساء وأطفال وعمّال وطلّاب مدارس وربّات بيوت وأرامل مقهورات ومحاربين محبطين وعشّاق منبوذين من العالم؛ فالجميع يبحثون عن يوم آخر (أو: أخير) من النعيم وسط ركام من الخراب والعزلة الوجودية، فضلا عن حضور الكثير من المقولات كالحرب والسلام والسجن والصمت والموت،وغيرها، دون أن تتخلّي القصائد المكتنزة عن شعريتها الباردة المدبّبة التي ضمنت لها خصوصية معالجتها الجماليةمن الناحيتين اللغوية والبصرية.

مقالات من نفس القسم