شفيق التلولي
قفزت إلى شرفتي المطلة على المقبرة، اصطدمت عيناي بألواح الطاقة الشمسية التي انتصبت فوق الجزء المتبقي لمرمى البصر من قبور الأموات الذين يرقدون هناك بعدما كانت قد غطت المباني التي تقوم من حين لآخر أجزاء كبيرة من اتجاهات المقبرة الأربع، فلم تعد تٌرى من نوافذ بنايات الحي التي تحيطها، يبدو أنني نسيت في غفلة من الزمن تنامي المشاريع الاستثمارية التي استهدفت كل ما يمكن استغلاله، فلم تسلم حتى المقابر من جنون الطاقة البديلة في عصر الظلام.
حتى عام ٢٠١٤ عام الحرب الكبيرة على غزة كنت أرى من شرفتي تلك التلة العالية التي يرقد فيها جيفارا غزة ورفاقه، نعم أراها وأتأمل القبور حتى يخيل إليّ أن شواهدها تتحرك وكأنها قيامة لموتى قٌضت مضاجعهم بعد زمان من الموت، آخر ما رأيته أولئك الفتية الذين سحقتهم الطائرات الإسرائيلية المغيرة، فتناثرت أشلاؤهم بين القبور وفوقها، قيل وقتذاك إنهم كانوا حفاري قبور لم يتسن لهم حفر المزيد من قبور الشهداء المتوافدين إلى المقبرة جراء تلك الحرب اللعينة.
إن لوثة قراءة مجموعة يسري الغول الأخيرة “جون كينيدي يهذي أحيانا” هي ما دعتني للقفز إلى شرفتي واجترار تلك الحادثة وما واكب المقبرة من أحداث تعدت قصف المبني العسكري المجاور لها عام ٢٠٠٧ وعامي 2008، 2009 إلى تطاير شواهد القبور وتناثر عظام الموتى الذين اعتادوا النهوض ليلا؛ علهم يهربون من القصف، فترتطم رؤوسهم ببلاط قبورهم عساهم يغوصون في قاع الأرض وإذ بهم يرتفعون، فتتهاوى عظامهم نخرة.
إنها صدمة القراءة التي أدهشتني حد اللوثة، فأخذتني إلى عوالم غرائبية برع في تصويرها يسري الغول في ملحمته الأخيرة التي سافرتُ بين دفتيها أبحث عن “جون كينيدي”، فأعثر على الغول الميت الحي متنقلا بين القبور ينبش في حكايته، يصوغ منها حكايات الموتى بين صغير وكبير، حكايات مشبعة بالحب والألم معا، الأمل، فالموت كما يراه الغول هو الحياة ليس في برزخها إنما في واقعها المعاش بتناقضاته وتجلياته والتباساته وأحلام العاشقين المتشظية في الخلاص والانعتاق، ذلك عبر رحلة عميقة الرؤى تكشف المسكوت عنه في غزة التي تنز وجعا وتطفح قهرا، فلا يقيم الغول في خضم كل هذا الموت أي وزن للطم والبكائيات ولا يدعو للنحيب والنواح، إنما يحث على التحرر من الذات وصياغة الهوية كما يراها الكاتب المتمرد الذي يمثل أنموذجا حيا للمثقف الملتحم ببيئته.
ربما أيقظتني تلك الألواح الشمسية من لوثتي بعدما اصطدمت بها عيناي، لكنني سرعان ما عدت إلى غيبوبتي التي أدخلني إياها الكاتب يسري الغول، بحثا عن “جون كينيدي” لتتجدد صدمتي بأنه أحد عناوين القصص التي تضمنتها ملحمته البرزخية، فأكتشف أنني غرقت في كوثره الخيالي حيث المقهى الذي اجتمع حوله كتاب وأدباء ذوو شهرة عالمية وقادة عظماء مروا عبر التاريخ في مأثرة يربط فيها بين برزخ غزة وبرازخ هؤلاء الذين أعاد إليهم الحياة ليميتهم من جديد ويعيد كتابة التاريخ وإنتاج أحداثه في محاكاة واعية بين واقعين مختلفين، واقع غزة وواقع لعوالم متناقضة بين الخير والشر التقت كلها في خيط محكي واحد بإبرة الغول التي صاغت متوالية قصصية جمع فيها الكاتب أنماطا مغايرة لصور الكتابة التقليدية إلى واقعية سحرية تأخذ المتلقي إلى الأجرام السماوية وتغوص به في باطن الأرض.
“جون كينيدي يهذي في غزة” ليس عنوانا عابرا ولا مثيرا فحسب إنما اصطاده يسري الغول العارف بثقافات عدة بصنارته ليقول للقارئ عليك بالقراءة والتأمل حد الهذيان؛ هذيان يسري الغول في دورة الأرق التي تصيب الكاتب كلما انصب حبره على الورق.
إن هذه الوجبة السردية التي قدمها يسري الغول هي خلطة سحرية فنتازية محكمة لأجناس أدبية عدة وٌظفت فيها تقنيات الرواية والقصة لتخرج بهذا الجمال الذي تتقاطع فيه الخطابات الثلاث الاجتماعي والسياسي والأدبي في حلة انجلت أمام المتلقي بما ازدانت من لغة سردية محكمة وتناص قرآني وعادات وتقاليد لشعوب متباينة عبر عنها في لوحة فسيفسائية كشفت عن واقع الإنسان المر الذي يموت قبل أن يحيا كما يشاء.
إن سطوة الموت الطاغية على النص السردي المتوالي جاءت كدال يخدم الفكرة المركزية وهي الحياة.
يموت يسري ويحيا للفكرة بالفكرة.
……………………
* روائي وشاعر فلسطيني