البهاء حسين
كان يجرى وراء الكتب، كأنه يطاردُ المستقبل
يريد أن يُمسكه من ذيله
أن يأتي به لأمه
قبل أوانه
:
تعبتْ أمي كثيراً
والشِعرُ لا يشفي الغليل
تظل تطارد أمك من قصيدةٍ إلى أخرى
عسى أن تكتبها دفعة واحدة
في قصيدةٍ تكفي لتفخيخ العالم
لتغيير الأقدار
كم أودّ أن تعيش أمي حياة أخرى قبل أن تموت
لا أثرَ فيها للتعب
التعب الذي لا تستطيعُ العينُ أن تخفيه
أمي هي الكتاب الأول الذي قرأته من الجلدة إلى الجلدة
هي الأبجدية
طالعتُ فيها كل شيء قبل أن يحدث
ماذا يحتاج المرءُ، ليفهم أمه
أكثر من أن يكون حزيناً
بالنيابة عنها
،،
لكنّ الصحف كانت أعظم انتصاراتي، بعد أمي
كيف يمكن أن يكون العالم مطوياً ونفرده بهذه السهولة
ألمسه، كأنني ألمس نفسي التي لا أعرف إلى أين يأخذها الفضول والشغف
كنت أمسك الجريدة
كأنني قد وصلت فعلاً إلى المستقبل
:
ماذا كنت تفضلين يا أمي، لو أنك اخترت ..
أن تتعبي.. أن أكتب أنا هذا التعب، محاولاً إقناع العالم بحزن جماعي عليك
أو لا
أنت رقم إيداعي
صحيفتي الأولى التي فردتها باتساع ذراعيّ منذ خمسين عاماً
ولم أطوهما بعد
كان لا بد أن تكوني أمي، كي أعرف نفسي
كي أكتبك في كل قصيدة
..
مع الوقت
كلما كبرتْ أمك وشاختْ عظامها
كلما اقتربتْ من الموت
تعرفُ أن الأمهات يتحولن إلى مستقبل
وأن القبر إشارة مرور
سهمٌ يشير إلى الطريق
..
أنا لا أحب أن يأتيني العالمُ بضغطةِ زر
أحب أن تتملى أصابعي ملامحه على الورق العريض الخفيف
صفحة الحوادث بالذات
كثيراً ما كنت أقرّبها من عيني
كأنني سأفهم أكثر
أحب أن أطوى الصحيفة، كما تُطوى الملابس والأيام
حتى الحنين
كثيراً ما أفرده وأطويه
مخافة أن يفوتني شيء من أمي
يا للمفارقة
سيكون علىّ أن أفتح الصحيفة التي أعمل بها يوماً
وأطالعُ نعى أمي
..
أنا هنا يا أمي
أقول لها، حين تنده عليّ
ثم أترك الجريدة من يدي وأذهب إلى عينيها
أفلّيها من الشوك
من الشَعر الذي ينبت لها في باطن الجفن
تحت الرموش
كم كنت أتألم، لأن الملقاط لم يكن بإخلاص يدي
أذهب إلى تعبها حين تنده، وأحذف تعبي
ثم أصغي لأمي وهي تتكلم، أثناء تفتيشي في عينيها
عن الغد كأنه عدوٌ محتمل
الأرامل يتوجسن حتى من المطر
لأن قلوبهن من طين
:
ما الذي يمكن أن نفعله حين تُطوى الصحف
عندما نصبحُ مجرد خبر
..
يااااه
كم تبدو تلك الأيام بعيدة
كأنها تأتي من ماضٍ سحيق
مع أنها ما زالت طازجة في ذاكرتي
كأنني أمدّ يدي الآن إلى كل كتابٍ وأشتريه من جديد
باحثاً فيه عن نفسي
أمد يدي إلى الروايات التي دلتني على أن التفاصيل قد تختلف
لكنّ فهرس الحزن واحد
:
الكتب التي تتمدد الآن في طرقة البيت
من الأرض إلى السقف
كل صفحة قادتني إلى نفسي
حتى تلك التي لم أقرأها بعد، أنا مدينٌ لها مسبقاً
يوماً ما سأمدّ يدي إليها
أنفض عنها الغبار، وأقرأ بامتنان للعمر الذي تمنحه الكلمات مجاناً
لمن يقعد تحت شجرة
،،
أتذكر تلك الجنيهات القليلة التي كنت أملاً بطني بالخبز والبلح، وأدخرها، لأشتري كتاباً
أتذكر روحي التي كنت أكتبها، في الأثناء، بحبر سري
دراجتي التي كانت تذهب معي إلى الكتب
جنزير الدراجة وهو يوسّخ جلبابي أو يسفّه
أتذكر عربات النقل الثقيل التي كان هواؤها يجرفني عن الطريق
أقدامي التي كانت تتحمس فوراً لمشوارٍ كهذا
كلّ طريق مشيتُ فيه
كل كتاب
أتذكر المكتبة الكبيرة التي صنعتُها
السوسَ الذي أخذ ينخر الخشب قبل أن أفرح بها
كنت أرهفُ السمع لصوته .. تك تك
لسكوته
لأي أمرة أكذب بها عيني
أكذب يدي وهي تفرك الخشب الذي تحول إلى بودرة
،،
قريبة وبعيدة تلك الأيام التي تعرف فيها نفسك
حتى الصمغ يلعب دوراً في طريقك
يلصق الأوراق ببعضها
كي تصبح كتابا أملؤه بأول قصيدةٍ أكتبها
لم أعد أتذكرها، لكنها كانت بالتأكيد عن أمي
أمي هي الخيط الذي يلضم الأوراق ويجعل منها كتاباً
هي الصمغ
المطبعة
هي أبي
الخيط الذي كان يرتق بنطلوني بقطعة قماشٍ من لون آخر
وتجعل من الرقعة بين الفخذين فضيحة أخبئها، كلما قعدتُ، بضم الركبتين،
لكنني أفشل في إخفائها حين أمشي
هي تلك الدراجة التي كانت تجري بي، وتفرح معي حين أشترى كتاباً جديداً
كنا نعود من سوهاج إلى قريتنا منتصرين
كأن الكتاب الجديد هزيمة أخرى لليتم
كأن بيتنا الطيني سيصبح بالخرسانة المسلحة كالبيوت المجاورة
،،
لا شيء يشفي من اليتم سوى الحبر
كل كاتب تحبه
كل سطر
كل عنوان أب
،،
الآن صارت لي ذرية
كلمات
صرت أكتب أمي، لتعيش مرتين
لا بدّ أن أحدهم سيعامل كلماتي على أنها طوق نجاة
كما كانت كتابتها بالنسبة لي
لا بدّ أن ولداً يتيماً سوف يمسك دواويني بفوطة
مثلما كنت أفعل في مراهقتي
سوف يعرق ويفتح فمه مندهشاً من أن العالم يمكن أن يأتي
إلى قريةٍ منسيةٍ في أقصى الصعيد عبر كتاب أو جريدة
أنفاس العالم هنا في الدولاب المعدن الذي اشتريته
وكلما وضعتُ فيه كتاباً كان يخدش كعبه
أرواح الموتى والأحياء
هنا
أمي في هذه الصفحة، هي هذه الفقرة
وأبي وجدته ألف مرة
ماذا ينقصني، لأكون خالداً
ماذا لو عاش أبي، ولم أعرف الصحف
ماذا لو كنت يتيمَ الكلمات؟