يخرج الشعراءُ من الهواء!

حسان الجودي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسان الجودي

لا تخرج الأشجار من الأرض بل تخرج من الهواء!

بفضل عملية التركيب الضوئي، تمتص الأشجار طاقة أشعة الشمس، وغاز ثاني أوكسيد الكربون من الهواء، وتحوّله إلى غذاء لها وتطلق الأوكسجين.

هذا الغذاء يشكّل من جديد، الكربونَ جسد الشجرة. وحين تستهلك الشجرةُ (الكربون) تحتاج إلى الأوكسجين الموجود في الجو، وتطلق من جديد غاز ثاني أوكسيد الكربون.

الشجرة كائن هوائي، عدا القليل من التربة والمعادن الموجودة فيها. وهذه الرؤية تحتاج إلى قليل من التعمق في علوم البيئة والبيولوجيا.

قدم ريتشارد فاينمان الفيزيائي الأمريكي والعالم الحائز على نوبل هذه الرؤية في مقابلة إذاعية مع BBCعام 1983 وقد أطلق على ذلك إعادة تدوير ضوء الشمس.

إن هذه الرؤية العلمية للشجرة هي رؤية جمالية مُتْرفة، وتختلف كلية عن عديد من الرؤى النفعية-الرومانسية للأشجار التي ظهرت في كل ما وصلنا من تراث إنساني.

ربما ظهرت في بعض الفلسفات رؤية إعادة التدوير التي تحدث عنها فايمن، فقد ذكر أبيقور مبدأً لحفظ الطاقة (بالتعبير الحديث) في نحو القرن الثالث قبل الميلاد، وصف فيه طبيعة الكون، إذ ينص على أن “مجموع الأشياء كان دائمًا كما هو الآن، وسيستمر ذلك للأبد.

ثم تبعه مبدأ (حفظ المادة) لنصر الدين الطوسي (نحو القرن الثالث عشر الميلادي). إذ كتب أنه “لا يمكن للجسم المادي أن يختفي تمامًا. فهو يغير فقط شكله وحالته وتكوينه ولونه وخصائصه الأخرى ويتحول إلى مادة مختلفة معقدة أو بسيطة. (ملاحظة: هذا المبدأ صحيح فقط في الفيزياء الكلاسيكية).

ثم نقرأ لشكسبير في هاملت التي كتبت حوالي 1600 م:

هملت: نحن نسمّن كثيرا من المخلوقات لكي تسمّننا، ولكن نسمّن أنفسنا للديدان. وما الملك السمين، والصعلوك الهزيل سوى تنويع في الغذاء: صنفان اثنان لمائدة واحدة. وتلك نهايتنا جميعاً.

الملك: وأسفاه وأسفاه..

هملت: وربّ رجل صاد سمكة بدودة طُعمت من جسم ملك، ثم أكل السمكة التي طعمت من تلك الدودة.

الملك: ماذا تعني بهذا ؟

هملت: لا شيء سوى أن أشرح لك كيف يسلك ملك طريقه إلى أحشاء صعلوك.

وتجدر الإشارة هنا إلى الصياغة العلمية الفيزيائية الأولى لمبدأ حفظ الطاقة ظهرت في وقت لاحق حوالي 1850 م.

إن الأشجار كما يمكن وصفها، هي المصدر الأغنى للفلسفة الإنسانية والجمال، بشقيه الشعري والعلمي. وهي بلا شك كما وصفها فاينمان” استعارات مرئية للتطور”.

وقد سبقه والت ويتمان الشاعر الأمريكي بقرنيين من الزمن، فقد رأى في الأشجار نماذج لأعلى مستوى من الأصالة، واحتفل بالشجرة كصديق يحبه، صادق وجميل ومورق وغني وممتلئ وحرٌّ.

ولم يتردد في إعلان موقفه البيئي الفلسفي  حول انحلال العناصر وعوتها إلى دورة الطبيعة. وها هو قبره الآن شاهد على بعض معجزات التدوير. والتي تجلت بأوراق عشب المقبرة، وشجرتين شاهقتين تقفان على جانبي قبره. وقد تحقق له ما أراد حين كتب في 1855 قصيدته  “أغنية نفسي” المقطع 52:

أورّثُ نفسي للتراب،/ لكي أنموَ من العشب الذي أحبّ،/ وإن أردتني ثانيةً، ابحث عني تحت نعل حذائك./ قد لا تعرفُ من أنا، أو تدركُ ما أقصد،/ لكنني سأكون عافيةً لكَ، مع ذلك،/ أنقّي وأقوّي دمَكَ./ إن فشلتَ بإحضاري في المرة الأولى، لا تجزع،/ وإن ضيّعتني في مكانٍ، ابحث عني في آخر،/ سأكونُ متوقفاً، في بقعةٍ ما، أنتظرُ قدومكَ.

ويبدو الشاعر اللبناني شوقي بزيع في سياق هذا الانتماء الفلسفي إلى الأشجار، ففي ديوانه “صراخ الأشجار ” الصادر عن دار الآداب 2007 يخرج تماماً عن الاحتفاء الرومانسي بالأشجار. بل يدخل في نسغها ويتشكل مع أوراقها من جديد، ويحاور ثمارها، فهو جزء منها، وهي جزء منه، فهي الأم والرحم. وهو الطفل الشاعر الذي فعل ما فعله الراهب “هان تشان”، (القرن السابع ميلادي) حين ذهب يسير في الجبال وقد أخذ يعلّق أبيات من الشعر على أغصان الأشجار.

يظهر ريتشارد فاينمن في ديوان شوقي بزيع في أكثر من موضع. يظهر أولاً فيما يقوله الشاعر عن السنديان: ” يظل رغم سقوطه/ متوثباً كتوثب النيران/ في الصوان…”.وفي هذه الجملة الشعرية إحالة إلى رؤية فاينمان حول إعادة تدوير الأشجار لضوء الشمس بواسطة الاحتراق.

كما تشير جملة الشاعر” أشجار ترفع “أيديها الى الأعلى” إلى ذلك الإبهار العلمي حول أن الأشجار هي كائنات تخرج من الهواء.

غير أن الذي يثير الإعجاب حقاُ، هو تلك الدلالة الرائعة المشتقة من فلسفة البيئة والتي استخدمها الشاعر شوقي بزيع في جملته الشعرية: “لن يتم القصيدة عنّي/ إذا متّ/ غير الشجر”.

يحيل هذا السطر الشعري إلى دلالة مهمة هي مفهوم إعادة التدوير، فحين يموت الشاعر، فإنه يتمنى أن تقوم جذور الشجرة بإعادة تدويره ليكون شجرة جديدة أو زهرة بابونج أو سروة شامخة. وقد عبر الشاعر شوقي بزيع عن ذلك صراحة بشكل نثري على صفحته الخاصة في الفيسبوك حين كتب:

“لن يتمّ القصيدة عني إذا متّ غير الشجر”، كتبتُ قبل أربعة عشر عاماً. وبعدها بعشر سنوات أحبَّ الأصدقاء في عين زحلتا، وفي مثل هذا اليوم بالذات، أن ينقلوا هذه الأمنية الى أرض الواقع، حيث جرت، في مبادرة تكريمية رمزية، توأمة اسمي المتواضع مع شجرة أرز صغيرة على منحدرات الباروك. ببطء شديد تشق شجيرة الأرز طريقها الى الأعلى، ولكنني متيقن تماماً من حرصها على تنفيذ الوصية”.

وهذه رسالة شعرية سامية، فما خلده الشاعر من أشجار في مجموعته الشعرية عنها، سيضمن له البقاء والخلود من خلال حضور غيابه الفيزيائي في جسد الطبيعة، كنبات أخضر آخر يختزن الشمس في خلاياه كإله متأبّد في الغياب والحضور.

 

 

مقالات من نفس القسم