محمد الفخرانى
كيف يمكنك أن تكون حاضرًا ومحبوبًا هكذا فى كل وقت؟
الشجن، عذب، راقٍ، وناضج، ليس متهورًا ببلاهة مثلما تفعل السعادة أحيانًا، ولا ثقيلاً بكآبة مثلما يفعل الحزن أحيانًا، يُجمّل التفاصيل، يضيف إليها تلك اللمسة اللطيفة، فيجعلها محبوبة، وصافية.
يأتى الحزن، ويمضى، تأتى السعادة، وتمضى، لأنهما فى النهاية ثقيلان، لا يمكنهما أن يكونا مقيمين، ولن يكونا محتملين لو فعلا، هما عارضان فى الحياة، الشجن خفيف، شفاف، يبقى طافيًا بداخلنا فى مكان ما، يليق به أن يقيم فينا، ونليق به، يمكنه أن يظهر عدة مرات فى اليوم الواحد، ولعدة أيام فى المرة الواحدة، دون أن يسبب أىّ ارتباك أو قلق، بل سيكون مطَمْئنًا وجميلاً فى كل ظهور له، وهذا ما لا يمكن للحزن أو السعادة أن يفعلاه، هما بدون الشجن يفقدان عمقهما، ويضيعان من ذاكرة القلب.
الشجن يجعلنا أكثر رحمة وتواضعًا فى لحظات القوة، أيضًا يجعلنا نعلو فوق لحظات ضعفنا، ينزع عن لحظات الضعف قوتها الزائفة، يلمسنا بعذوبته، فنسمو، ونعلو، ثم فى لحظات القوة يلمس زهورنا الإنسانية النائمة لتتفتح، فلا نصير مصمتين، مغرورين بلحظتنا القوية، الشجن يجعلنا ندرك أن لحظة القوة ليست حقيقية، لحظة الضعف ليست حقيقية، فنبتسم، نتفهم الفكرة، نرقى، ونسمو.
يا شجن، وتبقى لنا اللحظات والمواقف والمشاهد والأشخاص الذين كنت حاضرًا وقتما عرفناهم، والذكريات التى كنت شريكًا فيها بشفافيتك وخفّتك، منك يحصل الماء على طعمه، الهواء على ملمسه، والمطر على رائحته، لا أحد ينسى عيونًا شجية، موسيقا شجية، مشية شجية، يدًا شجية، قطعة ملابس على حبل فى شرفة ما، ضوءًا بعيدًا خافتًا، نبرة صوت، ضحكة، ابتسامة، لونًا ومقعدًا وسحابة وحكاية، كيف يمكنك أن تكون حاضرًا هكذا؟ أجمل البلاد، الشوارع، والأماكن، هى التى تسرى أنت فى روحها، فتبقى جديرة بذاكرة القلب والروح، بالحب والحنين.
الشجن، ليس شعورًا مستحدثًا فى عمر الكون، إنما شعور أصيل، شارك فى تكوين العالم والإنسان، شعور قديم، عتيق، رغم ذلك يظل رائقا، شفيفًا، دون تجاعيد، هو من أعمق المشاعر، وهو أكثرها خفة وشفافية، لا يصدأ ولا يقربه الغبار، يمكن أن نلمحه فى كل مفردات الكون، فيجعلها أسمى، يُصعّد أرقى ما فيها، نراه فى الحيوانات، حتى المفترسة منها، فى الأشجار، الجبال، والصحارى، هو ليس مجرد إحساس أو شعور، وإنما حالة تتحرك فى العالم كى تجعله رقيقًا، خفيفًا، يكسو الصحارى والجبال بموجة شفيفة فتسبح فوق الأرض، ينزع عن السعادة بلاهتها، وعن الحزن ثقله، فيجعلهما كائنين جميلين.
الشجن، الغشاء الرقيق الذى يغلف الكون، ويغلف قلوبنا، يمكننا أن نفرح بشجن، نحزن بشجن، نتكلم، نضحك، ونبتسم بك، نحب من تكون معه طوال الوقت، لا يمكننا إلا أن نحبه، أنت الوحيد الذى تقبل كل المشاعر أن تمتزج بها، فى الحقيقة تتمنى ذلك لتصير أكثر جمالاً وعمقًا.
الشجن، هذا الإحساس الشريف، متواضع، وصادق، من أكثر ثلاثة مشاعر تمنح الصفاء والسلام الداخلى، هو موجة رقيقة تمسح الغبار والزيف عن العالم، ستارة شفافة تنسدل على الأشياء فتطفو وتنكشف روحها العذبة، الشجن معنىٌ بالجمال والجوهر والبساطة، معه يكون العالم فى النهاية سهلاً، وكل شىء فى سلام.
يا شجن، وأنت غير متطلب، لا تحتاج منا مجهودًا، أو حدثًا كبيرًا كى تحضر، لا ندفع لك من أرواحنا، أنت أجمل وأرقى من ذلك، تأتى فتذكّر الروح أنها لا زالت قادرة على الطيران، يمكنها أن تسمو وتحلّق أعلى من كل شىء، أعلى من الحزن والسعادة، الألم والفرح، تظهر بشكل مفاجئ، فى أىّ وقت، فنعرف أننا كنا نحتاجك، أننا بك أجمل وأسمى، نشعر بتلك الموجة الرهيفة تلمس قلوبنا، ونرى فى عيوننا نظرة جديدة، وحدك، عندما تغيم بك عيوننا فإنها تصير أكثر صفاءً ووصولاً، عندما تلمس قلوبنا فإنها تصير شفافة، متفهمة، وحرة.
يا شجن، كيف تعرف أنك مُرحّب بك طوال الوقت؟
أنت مرحب بك طوال الوقت.