عنوان الديوان يبدو داعياً ومتحدياً، يخترق المسلمات والثوابت، لكن هذه المرة ليس عند الفئة المدافعة عنها والتي طالما سخرنا من فزعها مع كل صدمة جديدة، هذه المرة يخترق العنوان والديوان مسلماتنا “نحن”.. ترتد اللعبة علينا. لا تخفي إيمان أنها تستخدم الشعر في وظيفة محددة، هذا الكتاب كله مخصص لغرض وهدف، واحتراماً لنا كقراء قيل ذلك من عتبته، حقك أن تقبل أو ترفض، أن تقتنيه لتعرف السبب، وفي الوقت نفسه تختبر التجربة، تجربة الديوان وتجربتك، هل لديك يقين باقٍ ما زال يمكنك الاستناد إليه أم يستحق هو الآخر الانضمام إلى قائمة المشكوك فيه.
البداية من.. “ميت عدلان” قريتي العزيزة الجميلة، وطني الأم الذي يزورني كل ليلة في الكوابيس”.
حدوتة رائعة عن مكان أسطوري بقوة الكتابة والرؤية، تم تصفية تفاصيله إلى أدنى حد ممكن، ومعيار انتقاء الحدث صارم للغاية، الشروط الموضوعة له تجعل المنافسة صعبة: أقل قدر من الكلمات، الشاعرية بالطبع، الاختلاف والمغايرة حتى إن كان ذلك عبر “الموت” الذي يتم تلقيه في “ميت عدلان” بهدوء وبلا ضجة، اكتسب عادية الأفعال اليومية من تكراره.. “في عائلتي، كان الأطفال كالحصاد، مناصفة مع الحكومة”.
هناك خدعة ما نشعر بها منذ المشهد الافتتاحي، ننجر إلى أسر ذلك المكان، إلى أحلام أؤلئك الذين “لم يكن في نيتهم أن يخدعوا الله، لكنه لم يعجبه ذلك على أي حال”. أجيال نراها في الصور، عبر ومضات كاميرا “تُثبت في الزيارات البعيدة ما لن يمكن استعادته”. ومع أن تلك الصور مغرقة في الحزن، بلا لحظة فرح واحدة، برائحة موت مخيمة، إنما طاقة الفن تُخلف إحساساً مدهشاً بالبهجة، ولا يمكن على وجه الدقة تخمين مصدرها، خاصة مع منهجية التقشف التي لم يحدث لمرة، على طول الديوان، الإخلال بها، بحيث بدا أنها ليست اتجاهاً أو مفهوماً فنياً فقط وإنما تتعدى ذلك لتكون اعتقاداً مصدقاً فيه ما يجعله يتعدى مسألة الاقتصاد في اللغة إلى كل التفاصيل الأخرى، لا كلمة زائدة أو في غير موضعها، لا شعور فالت، مهما زاد إغراء السير وراء فتنته، لا شفقة على الذات، أو جلد لها، توازن بين “الأنا” و”الآخر، بين الـ “هنا” والـ “هناك”، الحالة في مجملها تم نقلها بعد تمام نضجها. لهذا فإن “التخلي” في الديوان ليس تمرداً ولا غضباً بقدر ما هو تعبير عن شغف مضمر بالأماكن، شغف لم يعد في الإمكان احتواءه إلا بتفكيكه والعمل على إعادة بنائه.
تجربتين فقط يصبح التقشف فيهما ضرورة وليس مجرد وسيلة يتم اختيارها، التصوف والغربة، ربما يكونان في النهاية وجهين لحالة واحدة عنوانها “التخلي”. الغربة في ديوان مرسال نعرفها كلما تورطنا في القراءة، لا يتم التصريح بها، وإنما تنتقل إلينا عبر مفرداتها، (الطيران، المحيط، الفندق، عشاء الكريسماس)، وفي الغربة لا بد أن يكون كل شيء في حده الأدنى، المتاع، الكلمات، المشاعر. تعدد الأماكن، والوجوه يفرض هذا “لا تسألني عن مكان الوصول، لمجرد أنك تركت لي كتفك لخمس ساعات أو لأنك لم تذهب بسببي إلى الحمام”. الغربة قاسية ولمواجهتها لا طريق إلا من اثنين، البكاء، أو مبادلتها القسوة، التماهي يعني العدم، عجز عن إدراك الاختلاف أو الوصول إلى “الخيط الذي يفصل بين الأعلام والملابس الداخلية، بين الأناشيد والنشيج، بين الله وكائناته التي تمشي على الأرض لتدفع الضرائب”.
ديوان شعر كالرواية، أو رواية كديوان الشعر، اختر ما يناسبك من الوصفين فكلاهما في تقديري صالح لتعريف هذا العمل، مثلاً أنت تقرأ القصائد منتعشاً بكل موسيقاها وطاقتها الشعرية فيما الشخصية، ودوافعها وأحلامها وكوابيسها، تنمو على مهل، والمشهد البصري السردي حاضر. هل التعريف مهم؟ من يحتاجه؟ ليس ضرورياً جداً أن نضع تفسيراً ما، لماذا يبدو هذا ديواناً بمذاق الرواية؟ غالباً لو استوعبنا السبب لن نمتلك القدرة التي يعدنا بها الديوان.. التمييز بين “الشخص الذي تحطم من قبل”، و”شخص تبعثر من قبل”.
هل من الضروري الإشارة إلى أن التخلي هو الطريق إلى الإدراك؟ قد لا يصل كل من قرأ الديوان لهذا، تتعدد القراءات والتأويلات بالتأكيد، لكن مؤكد أن إحساساً كهذا سينتقل إلينا حتى إن لم نتفق على تسميته، هذه نتيجة نهائية يمكن أن نرتاح إليها، ميزة التصنيف والأحكام أنها تضع حداً للأسئلة، واللطيف في هذه النتيجة أنه يمكن ترديدها والتأكيد عليها من الديوان.. “يا للوهم الرائع الذي نصنعه ونصدقه”.