ومن الإنسان ما شذر

ومن الإنسان ما شذر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

طه حسن

مقدمة: انكتبت هذه النصوص خامة على عواهنها من حيث الترتيب، بحسب أحوال الذات والفضاء والأوان. وتمت صياغة كل واحدة على حدة كلما هدأت الأحوال وسلكت سبيل الاطمئنان. وهي عبارة عن فسيفساء من مقاطع شذرية متنوعة بعنوان "ومن الإنسان ما شذر"، وضعت لها خانة "أحيانيات" في كتاب لي على هذه الشاكلة  سأنتهي من إنجازه في غضون أسابيع إن شاء الله.

 

ومن الإنسان ما شذر

أحيانا، يلوذ الإنسان بالتخييل الذاتي أو الخيال الإبداعي، فلا يجد عنهما موئلا  في جنح الليل وأطراف النهار، ليستكشف أن الواقع يتجاوزهما بغزارته حتى تنفلت منه القدرة على التصديق… . ثم يأخذ في التحقق من جديد بدل لوم الآخر والغير، ويرتد إليه الوعي كلما أعاد النظر في أناه، ووعيت أذناه “فمن نفسك”، فيعود  أدراجه إلى نقطة بداية حي بن يقظان، ولا يذهب سدى…

وأحيانا، يعزف قارئ عن  إبداعك الممهور باسمك، فيتخيل تصنيفا ما، وتصنيفه دائما على غير صواب. لكن لما يعثر عليك وأنت بدون مبدعاتك، يأخذه العجب أو الضحك، فيفشي إليك أنه حسبك كذا…وتقابله بشعور جميل، فتهمس في أذنه بأن المبدع كائن غرائبي، ينفعل ويتفاعل ولكن لا تأكله مراحل التعرية ولا يموت..

وأحيانا، يراد للإنسان أن يكسب من مقاولة لا عقل لها ولا قلب و لا روح، فيرى سلوكيات وأعمال تدخل في نطاق “الأفعال المنسوبة”، فيلتزم الصمت ويقاسي الأمرين بإاسم السر المهني، فيكون مشاركا أو مساهما باسم التستر، فينسحب عليه أحد بنود القانون الزجري وتطارده المساطر من كل حدب وصوب، لا منجاة  و لا نصير…

وأحيانا، تحاول إقناع نفسك بأحد تعريفات الإبداع (الشعر..) المتداولة وبعض المفاهيم التي تنضح بها الألسن. لكنك لا تقتنع..، فيتكشف لك أن الإبداع أكثره أسرار يشحنك بها رصاص القلم من كل جانب…وأن الجزء الباقي لا يعدو أن يكون شيئا من الصنعة والإيقاع  والصورة…، فتحول هذه الأسرار دون القبض على الماهية، ويستقيل العقل  ليشتغل القلب بدون السؤال…

وأحيانا، يحدث أن ينظر الإنسان في بعض المبادئ العامة التي تبث الريبة. فيعذر بجهله للأشياء. لكن، لا يعذر بجهله للنسبية التي تلف عقله ووعيه. وإذا تحققت لديه هذه المعادلة، يكون أكثر توازنا في عزلته المحتملة…

وأحيانا، يأخذه الحنين إلى الأمية  حتى لا يزداد أسفا بالفهم  والإدراك، ويطرح على نفسه سؤال التعلم، فينتهي إلى أن الشقاوة كائنة ما بقي بين ظهرانينا إنسان واحد جاهلا، وخصوصا المرأة  التي هي المجتمع كله على أساس محددات كيفية، وليست نصفه كما تريد سذاجة الكم. ويسترسل في التأمل ليستخلص بأنها لباس السعادة بحسب صلاح الدنيا أو فسادها…، ويزول عنه الغم  والأسى، فينقلب إلى نفسه فرحا مسرورا…إلا أن تلك السذاجة تبقي على صراع سرمدي مداره المساواة المستحيلة…

وأحيانا توقظ فيك “النظرة التي عليك” شعرا جريئا، فتستحيي وتشيح بوجهك إلى فراغ. وتريد العودة إلى “النظرة الأولى التي لك” ولا تسطيع، ويحصل الندم والارتباك فتضيع، وتكون قد فاتتك اللحظة وشعرك لم يسطع…

وأحيانا يستوقفك الحمار المنتصب دون عقبة محو الأمية التي داهمت الإنسان العربي منذ ولادته. إذ ظل يعيش على إيقاع الأمية التي رست بشاطىء الإبقاء على محوها. لكن الإشكال هو أنه تم  تجاوز هذا الإنسان بكثير من حيث نوعيتها. وهذه المجاوزة تستدعي على الأقل إرساء مؤسسة المحو الكلاسيكية على مياه الافتراضية والرقمية الجديدة حتى لا تتعاظم الأمية أكثر فأكثر.. و لم لا؟ !

وأحيانا، يشعر الكاتب بالغبن في وضعية مستحيلة لحظة الحلول بينه وبين الإلهام، فيحاول الحفظ والاستظهار في نفسه لعله يظفر بقبس من غير المحمول. لكن عندما يحضر القلم، ينفلت منه كل شيء إلا الفراغ، فيأتيه غريب أو صديق ليعرض عليه الكف عن الإزعاج..، لكنه لا يبالي عن حق لمن يريد أن يثنيه عن قريحته الكليمة…

وأحيانا، تستيقظ ابنتك البالغة من العمر ست سنوات وهي تعاني من التبول اللاإرادي، وتقول في ذلك الصباح: الحمد لله، إني لم أتبول هذه الليلة في الحافظة. سأعود إلى استعمالها الليلة المقبلة إن شاء الله. وبعد لحظات تمرر ظفيرة شعرها من الخلف على ظهرها ملاحظة: ما حك لي أحد بين كتفي مثلما أفعل الآن. فيأخذك الذهول وتستغرب للغياب اللاإرادي…

ــــــــــــــــــــ

*كاتب من المغرب

 

مقالات من نفس القسم