ولم يَقتل أحدًا..

محمد الفخراني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

“هذا المغفّل سيتسبّب في قتلنا”.

يَخرج من المخبأ دون إذْن ويندفع تجاه العدوّ، ويضطرّ بعض زملائه الجنود للخروج خلفه، يجري في العمق، للعدوّ، لا يتوقف حتى يُعرقله زملاؤه ويجذبونه من ملابسه ويُسقطونه في حفرة أو خندقٍ ما، فيتلفّت إليهم بنظرة لا يفهمونها.

يصرخون فيه بصوتٍ مكتوم: “يا مغفّل، إنها حرب، لسنا في سباقٍ للجري”، فيحاول النهوض ومُعاوَدَة الجري، لكنهم يتشبّثون به ويضربونه في جسمه باللّكمات، ويجثم ثلاثة أو أربعة منهم على صدره ليثبّتونه.

لا يتكلّم إليهم، ولا يجيب أسئلتهم: “لماذا تفعل هذا؟ أنت مغفّل؟”، يتلفّت إليهم بنظرة لا يفهمونها.

ومن جديد يندفع وحده تجاه العدوّ.

لكنه، “المغفّل”، لم يتسبّب في قتلهم حتى الآن، لاحَظوا ذلك أخيرًا، ما زال هناك الكثير ليلاحظوه.

لم يعتبروا جَرْيَه خوفًا أو رعبًا، كانوا ليعرفوا على الفور، ولا شجاعة، كانوا ليعرفوها أيضًا.

“إنه انتحاري..”.

لكن حتى “الانتحاري” لا يفعلها بهذه الطريقة.

يجري في خطٍّ مستقيم، فيكون من السهل قَنْصه، أو ارتطامه برصاصة طائشة، لكنّ شيئًا من هذا لم يحدث، ويرون طلقات الرصاص ليلًا تَبْرق حوله، كان مستحيلًا ألّا تقتله مئة رصاصة على الأقل في الثانية الواحدة، لكن.. ولا واحدة لمَسَتْه.

خلعوا عنه ملابسه وفتَّشوا جسمه، وهو يتلفّت إليهم بنظرة لا يفهمونها، لم يجدوا خدشًا واحدًا، ابتعدوا عنه خطوات وهم يفكرون ماذا يكون هذا، وظَلَّ هو عاريًا ينظر في نقطة بعيدة، وبعد دقائق اقترب منه أحدهم وألْبَسَه ملابسه، ووضَع في يده بندقيته، وقَبَّل رأسه.

“رأيت بنفسي شيطانًا يحميه أثناء جريه”.

“لا، كان ملاكًا، رأيته بعيني”.

“أو هو نفسه شيطان”.

“هو ملاك”.

 ويبدؤون في الجري خلفه، يحتمون به، هو الشيطان، هو الملاك، ينتظرون حتى يخرج من خندقٍ أو مخبأ أو حُفرة، ويتبعونه، وهم يعرفون أنه لا يريد التوقف، لن يتوقف، فيتدخّلون عند نقطة ما، ويعرقلونه، ويجثمون على صدره، ويقولون له: “يكفي هذا لليوم”.

يتلفّت إليهم بنظرة لا يفهمونها.

لا ينام، لا يأكل، أو هم فقط لا يلاحظون، سيلاحظون أنه يدخّن سيجارة من وقتٍ لآخر، يسحب منها نَفَسَيْن ويُطفئها ويعيدها إلى جيبه.

لم يره أحد يُعبّئ خزانة سلاحه، يقولون إنّ شيطانًا يُعبّئها له، البعض يقول إنّ ملاكًا يُعبّئها له، ويقولون إنّ كل رصاصة منه لا بد أن تقتل واحدًا من العدوّ، أو أكثر.

ما زال يجري في خطِّه المستقيم وهم خلفه في خطوط متعرِّجة، يختبئون أثناء الجري للحظات خلف أكوام تراب وجثث وجذوع أشجار وداخل حُفَر، ويراقبونه وهو مستمرّ، يجري وسط الرصاص، تحميه الشياطين والملائكة ويعبئون له سلاحه.

يسمعهم وكلٌ منهم يتفاخر بعدد مَنْ قَتَلهم، فيتكلّم أخيرًا، ويقول: “أجري حتى النهاية”.

يردُّون عليه: “نعم، ونحن خلفك، حتى نهايتهم”.

ويقولون لبعضهم بعضًا إنه أكثر واحد فيهم قَتْلًا للعدوّ، لم لا؟ الشياطين تحميه والملائكة، ويُعبّئون له سلاحه.

يتلفّت إليهم بنظرة لا يفهمونها.

هذه المرّة، كانوا مختبئين داخل خندق، محاصَرِين من الخلف والأمام، مرَّت عشرة أيام، وخلالها كان ثلاثة منهم أو أربعة يجثمون على صدره حتى لا يخرج ويجري، وهو يكرّرها: “أجري حتى النهاية”، ويبكي بلا دموع، فيردُّون: “ليس الآن”.

في اليوم الرابع عشر، انتفضَ من بينهم، أو أنه تَسَرَّب، لا يعرفون.

خرج من الخندق يجري في العمق، عمق الحرب، وهو يُكرِّرها: “حتى النهاية.. وحدي”، حاولوا الخروج لكنه كان أسرع ممّا يمكنهم الجري خلفه، يرقبونه من أماكنهم، يبتعد والرصاص يطير ويصرخ حوله، يجري في خَطِّه المستقيم، كان مستحيلًا ألّا تقتله ألف رصاصة في الثانية الواحدة، لكن.. ولا واحدة لمَسَتْه، ظَلّ يجري حتى اختفى في العمق، إلى أبْعَد ممّا يمكنهم الوصول إليه.

 كانت آخر مرَّة يرونه فيها.

تنتهي الحرب.

يعودون منها، ولا يعود.

يعرفون بداخلهم أنه لم يمت، ولا يمكن أن يعتبروه مفقودًا، صورته وهو يجري ما زالت تجري فيهم، وأمامهم، يتأمّلونها ويبتسمون، الآن يبتسمون، ويهزّون رؤوسهم بتلك الطريقة كأنما أدركوا شيئًا، الآن يرون، لم يكن ملاكًا ولا شيطانًا، لم يكن معه ملاك يحميه ولا شيطان، ينتبهون إلى أنّ أيًّا منهم لم يره يُطلِق رصاصة واحدة، هذا السلاح، سلاحه، لم تخرج منه رصاصة واحدة. 

قدَّموا لاسمه نياشينَ البطولة والملائكية والشيطانية والشَبَحيَّة والانتحارية. 

“أجري حتى النهاية”، يُردِّدها الآن كل زميل له مع نفسه، ويدركون أنه كان يقصد شيئًا آخر غير ما فهموه، ويجري إلى شيء غير ما كانوا يجرون إليه.

الآن يفهمون نَظْرَتَه التي لم يفهموها هناك.

يشعرون أنه ما زال يجري هناك، هناك أين؟ هناك، كل ما فعله هناك أنه كان يجري، لم يقتل أحدًا.

هو، كان يجري حتى يصل إلى نهاية الحرب، يعرف أنّ لها نهاية، ويريد الوصول إليها بأسرع وقت، يقطع المسافة وحده، كأنما يجري بدلًا من الجميع، كل مَنْ داخِل الحرب وخارجها، فلا يجرون فيها ولا تجري فيهم، بدلًا منهم، يجري في الحرب كي يصل إلى نهايتها.. فتنتهي.

انتهت تلك الحرب، ربما وصل إلى نهايتها.. فانتهت.

لم يَقتل أحدًا.

وما زال يجري..

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

نهاية