وداعًا حسني سليمان

hosni solaiman
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خالد السنديوني

في التسعينيات، كما في عقودٍ أخرى، كانت “وسط البلد” ملاذًا للمثقفين والكتّاب والشعراء، خاصةً في أوقات المعاناة من قسوة القاهرة، ومن قلّة منافذ النشر وفرص التحقّق. وكانت هناك أماكن قليلة نضع فيها أمتعتنا، ونمارس فيها ليس الاسترخاء، ولكن شيئًا كالذهان المسموح به للمبدعين، مع شكّ كلّ واحدٍ منّا في استحقاقه لهذا التوصيف، خاصةً في حالة الكتّاب الذين لم تتح لهم فرصة الإصدار الأول في ذلك الوقت.

أُضيف بالنسبة لي، ولآخرين، مكانٌ أصبح فيما بعد ملاذًا. تعرّفت على «شرقيات» قبل أن ألتقي حسني سليمان، عن طريق أصدقائي وليد الخشّاب ومي التلمساني وخالد حافظ وهشام نوار. وفوجئت بأنّ مخطوط ديواني الأول «ميجابوليس» وصل إليه عن طريق وليد الخشّاب، على ما أذكر.

الحقيقة أنّي لم أقابل شخصًا بهذه الدماثة والمحبة، والقدرة على جعل من يدخل إليه صديقًا في لحظات وبمنتهى السهولة. كانت دار «شرقيات» في الدور الثاني من عمارةٍ في وسط البلد، وأذكر أنّني كنت أشعر بالحزن إذا صعدت إليها ولم أجد حسني سليمان هناك، أو وجدت الدار مغلقة. إلى هذا الحدّ استطاع هذا الرجل المرهف أن يصنع عالمًا يشبهنا، كأنّه بيتٌ آخر بديلٌ للبيوت الحميمية التي تركها الشعراء الريفيون وراءهم من أمثالي وأمثال ياسر الزيات وآخرين، وجعلنا ننتمي إليه بكل بساطة.

أذكر ديوان إيمان مرسال الأول «ممرّ معتم يصلح للرقص» يطلّ من خلف فَتارين العرض في مدخل الدار، وأذكر أنّني في أحد المرّات دخلت والمخطوط بين يديها، مخطوط ديواني الأول، وأذكر ما قالته بالنصّ: «لقد جئتُ اليوم بأعمال شاعر لعرضها على حسني سليمان، لكنّني فوجئت بكتاباتك، وأنّها أفضل من الكتابة التي رشّحتها للنشر».

هكذا كنّا نتزوّد بالثقة ونحن في أمسّ الحاجة إليها. هكذا وجد هو طريقةً لكي يُشعرنا بالتحقّق قبل أن تخرج إلى النور إصداراتنا الأولى.

لم أستطع أن أدفع تكاليف النشر والطباعة إلا بعد وقتٍ طويل، حين سافرت إلى الخليج، وتولّت الدار طباعة ديواني الثاني أيضًا «نمر يبتسم»، الذي كان من أنجح أعمالي.

قُدّر لحسني سليمان و«شرقيات» أن يُشكّلا عائلةً من رموز جيلنا، وأن يكون راعي الأعمال الأولى لمعظمهم ومُخرجها إلى النور، بل والمروّج لها. والحقيقة أنّ حسني سليمان كان يشبه جيلنا إلى حدٍّ بعيد؛ فهو بعيدٌ عن التكلف، مغرمٌ بالكتب، وباحثٌ عن الكتابة الحقيقية، داعمٌ للمبدعين كيفما كانت خلفياتهم الثقافية.

كلّ هذه الصفات جعلت من «شرقيات» ملاذًا للمبدعين الحقيقيين في تلك الحقبة، كما تولّى هو تعريفنا على بعضنا البعض، وتعريف كلّ كاتبٍ على أعمال الآخر، قبل أن أُفاجأ بالإغلاق المفاجئ للدار «دار شرقيات». حزنت لذلك جدًّا، وها نحن نحزن لفقد هذا الرجل الذي استطاع أن يصهر الجيل، أو على الأقل رموزه، عبر «شرقيات» وبكلّ محبّةٍ ورقيّ.

وأعتقد أنّ هذا الجيل كان يستحقّ حسني سليمان، كما كان حسني سليمان يستحقّنا.

مقالات من نفس القسم