أحمد المديني
عند قراءة أحدث روايات المصري وحيد الطويلة “كاتيوشا” (دار بتانة، القاهرة، 2021)، يغلبك إحساس بضرورة تشريح الرواية نقدياً وليس الاكتفاء بتقديمها عمومياً. ومن دون مقدمات، دعونا ندخل الى عالمها الغنيّ…
تشريح رواية
الحدث- الحادثة: هذا هو الحدث الوحيد في الرواية، أي الواقعة المادية المتحققة على مستوى واقعية الرواية.
الحادثة: نعم، هي حدث واقعي بحكم فعل انقلاب سيارة، ووقوع ضحية ونقلها إلى المستشفى، وانتقالها إلى حالة الغيبوبة، ثم ما يلي ذلك مادياً واستيهاماً.
ولكن، لكي تتحقق واقعية الحادثة بدقة ينبغي أن نراها، كي تقدَّم لنا موصوفةً تحت العيان، قابلة للمعاينة، لا مسرودةً، فقط، ومنظوراً إليها بعين مضطربة، عين الشخصية “الفاعل”، الطرف في الحادثة، ومتأثرة بها.
تنسيب الحادثة: هذا يضعها مُنسّبةً باهتزاز تصويرها، متعددة الأشكال، وقابلة للتعديل، فاقدة في عين واصفها للثبات، الصورة الفوتوغرافية الصافية، نظراً لتحكم عامل سابق فيها.
الحدث الحقيقي: العامل القبْلي هو الحادثة المعتمدةُ المعوّلُ عليها التي ستصنع البنية السيكولوجية والدلالة الكبرى لهذه الرواية. الإمساك بعناصر هذه البنية هو أداة وسبيل فهمها.
الحدث فعل، وهي قول، والقول خطاب بما سيؤسسه ويخبر به ويؤدي إليه ليصبح واقعة.
الحدث فعل بدالّ ومدلول بصيغة خطاب يصنعان هنا بنية.
البنية هي جملة “لم أعد أحبك”. الرواية كلها جملة واحدة، ما بعدها تفكيك لها وتفصيل. القراءة وحدها تقوم بمهمة التركيب، ما أمكن، أي صنع الرواية، التي هي دائماً احتمال. ما ليس قابلاً للتفكيك وإعادة التركيب كلام عام، خارج الأدب والفكر، كلغو المقاهي العابر. الآن، عشرات الروايات لغو مقاهٍ، بالعامية اللبنانية تعجبني عبارة “طق حنك”!
التأثير السيكولوجي
الواقعة تأخذ هنا وضع فعل نفسي، تتجسد لا بشكل ووصف، ولكن بأثر يهز الساكن ويقود نحو رد فعل، هو بدوره تأثير مضاد. الواقعة تتولد وتتكون من طرفين سالب وموجب من أثر جملة فقط، هذه الرواية جملة واحدة، من تلفظها الأول حتى الغيبوبة الثانية الأخيرة (؟).
الواقعة هنا ضربة بمثابة صعق من زوج لزوجته في لجّة علاقة زوجية فتضطرم بشدة وبهذا الاضطرام توجد الرواية نصّاً سردياً على نحو خاص بصوت مفرد وجامع أصوات.
تبدأ منه وتنتهي إليه، في حركة ذهاب وغياب تنسج حكاية رتيبة قليلة الأهمية، لأن المهم والعماد هو الحميّة العاطفية والتوتر السيكولوجي من أثر الصدمة ـ صعق الزوج للزوجة ـ وفعلها النفسي فيها الذي يصنع إطار حياة وعلاقة فيها عديد شركاء وأمزجة ومسارات، وشحنة بطاريتها الاستيهامات والتهيؤات والوساوس يقدح زنادها كربون الغيرة وسطوة الرغبة ووهم الامتلاك.
الحدث الحقيقي/ اللاحقيقي، الحادثة، الواقعة، الفعل النفسي، التأثير السيكولوجي، هذا كلّه مبناه الصدام، في صورة القطيعة، طعنة العاطفة، تخلِّي الواحد عن الآخر، مؤداه ونتيجته المأساة، هي تيمة الغيرة والفقدان والخسران، والسقوط من علياء الحب والكرامة إلى الهاوية.
لبّ المأساة دائماً عاطفي لأنها بنت المشاعر، وإن نجمت عن وقائع، لذلك تقتضي شكلها المناسب، غالباً شعري ملحمي، تراجيدي، كما عند شكسبير، لا الرواية ذات المنشأ والشكل المبنيين على العلاقات والمبادلات والهياكل المادية تجليات الثورة البورجوازية والصناعية، فاخترعت منها ما يناسبها، أي الروح المأساوية، قوامها الألم والصدمة والسخرية وخيبة الأمل دائماً بإيقاعات شتى كالحزن والفرح، مثلاً، وينبغي لتكون الرواية أن يخفق فيها نبض زمنها ومجتمعها في محيط شخصياتها داخالاً وخارجاً وعزف التوتر الدرامي فيها إيقاعاً داخلياً وهي تتألف بلغتها لا أي لغة، وصورها الخاصة، وتخييلها غلافاً شفافاً لكرتها الأرضية، كي تقول شيئاً محدداً أو ملتبساً عن الحياة والنفس الإنسانية فكان رهاناً آخر أمام وحيد الطويلة.
ماذا تقصُّ رواية الطويلة، ما همُّها؟
هي حكاية بسيطة تحدث في كل مكان وزمان، تتنوع حسب المجتمعات والتقاليد. رجلٌ يتخلى عن زوجة أو خليلة في أوج العلاقة، أو العكس، وتنجم عن ذلك تبعات مختلفة. هذا ما حدث لشخصية الطويلة، مصري وكاتب يقيم في دُبي هو وزوجته. ذات سفرة إلى القاهرة وهي توصله إلى المطار يخبرها في الطريق بأنه يحب امرأة أخرى، فتصعق بالخبر ويندّ عنها ردّ فعل غير محدد نتيجته ارتباك السائق وانقلاب السيارة لتخرج هي ناجية فيما يُنقل إلى المشفى ويبقى زمناً في غيبوبة، وتُنسج تُروى القصة في هذا الزمن لتنتهي بتبادل دور الغيبوبة بينهما.عبارة الاعتراف وإعلان القطيعة تعيد تفكيك عقدة معطاة مكتملة، لتسرح الزوجة “المخدوعة” (مشيرة)، في فرد فصول حياتها مع الزوج، لا نعلم له اسماً، ولا صفات جسدية، إلا وضع كاتب مشهور، بمعجبات ومعجبين، وألعوبان، وعلى نَوْل الغيرة الممزقة تشرع في تدوير خيوط الشك، كل خيط بمثابة علاقة محتملة مع امرأة، جارة أو صديقة، وتبحث عن سنادات لصنع حالة الغريم وتشتعل معها مشاعر غيرة وخيبة وتمزق وخذلان حارقة، أشدّها ضراوة الشعور بالتخلي والهزيمة في معركة تنتصر فيها امرأة أخرى غائبة وتفترضها بأقل علامة. شك. هنا يزاوج السرد بين صيغتي البوح (كما على أريكة فرويد)؛ وتقنية التحرّي في الرواية البوليسية لجمع أكبر قدر من المعلومات تعزز التهمة (سرقة الزوج)، في سياقهما يتم استعراض نماذج وصور اجتماعية أغلبها عامٌ بغية تأطير خارجي للرواية مثوى التوتر الحارق لغيرة الشخصية المركزية (الزوجة)، تفتقد الخصوصية نظراً لطرحها في جغرافيا أجنبية شبه محايدة (دبي، لا القاهرة التي تنتسب إليها).
نعم، الغيرة تيمة القصة ـ إذ ينبغي أن نتعامل باحتراز مع جنس (رواية) يحتاج من الكاتب في كل مرة أن يمثل شكلاً وبناء ولعباً ـ وفعلها دوامة الشك بواسطة تواتر الأسئلة، ليصل التحرّي أخيراً إلى (المتهم) الغريمة، صديقة حميمة للمتخلّى عنها، ويبدأ صراع آخر مسرحه لقاء الغريمتين حول من ينبغي أن يستأثر بالزوج (الفاعل) هنّ (المفعول بهنّ) بينما هو في غيبوبة. تحوز التيمة مساحة نصية كبيرة، بين السرد والمونولوغ الداخلي والتداعيات في انتقالات لازمة الشك يسمح بهذا استخدام ضمير المخاطب ناطقاً رئيساً ونائباً عن المتكلم والغائب حتى إننا قد نضيع لنسأل من يتكلم في ما حاول الطويلة أن يجعله متعدداً شخصياتٍ وأصواتاً بينما تغلّب الصوت الواحد في قصة هو نبعها ومصبها، ولقضية إنسانية اجتماعية صار لسانها.
فنُّ “كاتيوشا” ولعبتُها
يظهر الكاتب حنكة عالية في فن صناعة التوتر وعزف درامية تيمة الغيرة تدفع إلى جحيم الشك وتغوير أحاسيس الشخصية، فيمنحنا ما يمكن أن يصبح نصاً مثالاً في هذا النوع من الأدب، اقتضاه الطويلة نهجاً مغايراً لسابق أعمال شهيرة له آخرها “جنازة جديدة لعماد حمدي” (2020) نظن أننا نحدسه من قراءة متفاعلة فإذا به يعمد نفسه إلى تقريره مستعيراً لسان مشيرة: “أنت تكتب كلّ رواية بلغة مختلفة عن سابقاتها، كأنك لست الكاتب نفسه” (190)، ولا نملك إلا الإقرار بهذه الجملة تقريرية الحكم، تأتي في نهايات الكتاب، كأنما تستشعر استغراب قارئ يسأل من هذا الذي أقرأ وقد عرفتُه مختلفاً، أي نبّاشاً في قاع المجتمع، متسلّلاً إلى الخفيّ والخلفي لهتك الأسرار وإخراجها من الكواليس بالفضح والتعرية في واضحة النهار، جامعاً بين تقديم البانوراما (الزّوم) والخلايا النووية، بلغة قاطعة كحد المدية وشفيفة بخرير ماء نبع؟
أقول/ في “كاتيوشا” من وحيد الطويلة الاثنين معاً، وإن غلبت الآن النزعة السيكولوجية والحفر الوجداني في أغوار النفس تتعذب في قلب الصراع بين عُصاب التملك العاطفي، كغريزة إنسانية، وبين ما ينال الإنسان (المرأة، هنا) من أوصاب الآخر (الرجل) والمحيط. لكنه رغم هذا يحرص على إرث مؤسسته السردية، إذ نجده يعالج التغريب الجغرافي غير المفهوم لوضع شخصياته، فلا شيء يبرر جعلها في بلد خليجي بدل الأصلي اللهم تفادي سجال (مصري محتمل) جراء إصابات “كاتيوشا” الرواية، بالمعنى المادي، متعددة القذائف والتصويبات أولها نحو النساء: المرأة كوحدة نووية بالغريزة والطبيعة، وكائن خصوصي، وزوجة، وكائن اجتماعي محكوم بظروف وملتزم بدين وسلوك.
من غير أحكام قيمة، يغمز من قناة أمزجة وأنماط حياة من نفاق وخيانة وغدر ومناورات حول غُنم الرجال، انتقالاً إلى نقد ما خلف الحجاب، ورصد أوضاع المرأة في مصر مأزومة بالعنوسة وضيق حق الاختيار، في خطاب يأخذ أحياناً نبرة عالية يفوق إمكان احتجاج شخصية روائية تنفّس عن غيض اختطاف صديقة لزوجها الحبيب، يبرع كاتبُها في الاستغراق والتماهي مع مشاعر وحركات ومُجسِّدات أنثوية خالصة حتى لنخال أننا إزاء رواية نسائية خالصة أو النسونة تيمتها.
فما يلبث الطويلة، على لسان مشيرة، استطراداً، أن يقصف جمهرة الكتاب، بما بينهم من تحاسد وتكاذب وتورّم للذوات، بسخرية سوداء ومقت، واستخفاف بمواضيع، مستعملاً بارودياً أساليب. الكاتيوشا تقصف أفقياً وعمودياً ولا توقّر أحداً حتى إنه لا عصمة عفة إلا لنبي. نراه في رسم صور ورصد مثالب قومه بعينَيْ ولسان بطلته الجريحة، جوازاً، صنَعَ لوحةً سوسيولوجيةً تُدرِج الناظمَ الاجتماعي وتعطي الكثافة والبُعد الموضوعيين للحادثة الحدث مصدر أزمة البؤرة الذاتية، وتسوّغها بخبرة هي عُدّة كاتبٍ ذي معرفة موسوعية ببيئته وعين كشّافة لناسه وخلاقة متخيلة بخصوبة.
الرهان الصعب
هي مصالحة تدعو إلى السؤال، ألا يجوز للروائي العربي أن يبؤِّر سردّه حول معضلة ذاتية صِرف بالاستغراق في إنسانيتها، بدون أن يغلّفها علناً بالقماش الاجتماعي وتشتبك مباشرة بخيطه لتسويغها.
نعم، إن الرواية هي فن الواقعية بامتياز لا شعر التجريد والمطلق، لكنّ الرواية الحديثة ارتقت وتجددت حين جعلت الفرد محورها. شيءٌ من هذا تُفصح عنه الرواية الجديدة للطويلة، بما أنها جمعت بين معنيين ومنحيين للعنوان “كاتيوشا”: المادي التعييني كما وصفناه؛ والمجازي القرين بالعالم السيكولوجي والمنزع الذاتوي- الفرداني وهو إنساني في تيمة الغيرة والشك الحارق لدى امرأة. فهو يشير إلى الأصل المعجمي للعنوان في قصة امرأة روسية بالاسم نفسه تنشد أغنية لحبيبها الذاهب إلى الحرب وستفقده. بينما يحق لنا في ختام هذه القراءة استخلاص أن الرواية العربية بعمل مماثل تحلّ بأرض سردية تخييلية منزاحة عن أصنافها التقليدية وحتى مزعومة التجديد أيضاً، إلى منطقة بكر مادةً ورؤيةً وصياغةً، تسمن رصيد كاتبها، وتغني تجربتنا الروائية العربية مجملاً؛ أعود لأقول رواية جملة واحدة مثل مراتون وتقطيعها جملاً وفقرات وتنقيطاً إنما ليأخذ القارئ نفساً ولا يحترق بطلقات كاتيوشا وهي تسعى الى كسب رهانها. سئلت الروائية الفرنسية ذائعة الصيت آني إيرنو عن كيف ترى طريقتها فأجابت: “إنني لا أفكر بصيغة عالم ما أكتب، ولكن بصيغة السكين. أرى الكتابة دائماً كسكين”. كذلك الطويلة..