حاوره: محمود قرني
عن منشورات الاختلاف، وأمان، وضفاف .. صدرت الرواية الثالثة للكاتب والروائي وحيد الطويلة تحت عنوان ‘باب الليل’.
العمل الثالث للطويلة يبدو كمتوالية روائية التي لم تخرق القارب التونسي وجغرافيته الإنسانية فحسب، بل كانت شقا رأسيا في المجتمع العربي كله، عبر تلك النماذج البشرية التي أغنت العمل الروائي وأضفت عليه المزيد من الحيوية والتجدد.
شخوص الرواية بداية من صاحبة المقهى التونسي الفريد والساحر كلها كانت أدوات مجيدة في طرائق صنع الحكاية التي شهدت درجة فريدة من تلقائية الكتابة لدرجة جعلت القارئ جزءا من عالمها وكأنه واحد من شهود أو صناع وقائعها.
لكن شخصيتي صاحبة المقهى وأبو شندي شخصيتان مركزيتان في ذلك العمل المهم، فالأولى بجانب كشفها عن تركيبة أنثوية شديدة الخصوصية والغرابة، تكشف نمطا تونسيا عربيا مختلطا من القيم والتطلعات، ويتأتى خلفها بالطبع عدد من نساء وبنات المقهى غريبات الأطوار، كما تظل شخصية أبو شندي عابرة للأنماط الروائية .. فهي كاشفة للمأساة الإنسانية والسياسية في العالم العربي .. وهاهو الرجل يمضي كواحد من عناوين تلك الثورة المغدورة، بعد أن كان واحدا من أبطالها شأنه شأن أبي جعفر وغيرهم من فلسطينيي الشتات.
لقد كشفت الرواية عن عالم فريد ومتشابك بين المجازات الثقيلة للسلطة وبين مساحات للحرية والجوع والإحباط والرقاعة والألم في مجتمعاتنا المغلوبة. كل ذلك يتم عبر جغرافيا محدودة هي أرض المقهي التونسي ليس أكثر .. فالجغرافيا هنا تحولت في ضيقها الى رمز متسع تجاوزت محدودية مساحته لأنه انبني على سعة التجربة الإنسانية، ومخاضاتها العسيرة.
كل هذا العالم ينبني عبر لغة شديدة الشفافية والدقة، احتفظ الكاتب ببساطتها دون أدني معاظلات. لقد كانت سلامة اللغة وسلاستها مرجعية أدائية عززت مصداقية ذلك العالم المترامي الذي يقوم على تحالفات غريبة وإن كانت متوقعة في مناخات سياسية ومجتمعية مسمومة.
أسرتني شخصية أبو شندي حقا وشعرت أن كياني يروح ويجيء حول مأساته السياسية والإنسانية لاسيما في ذلك الفصل الفريد الذي دون قصة عشقه مع تلك المسيحية اللبنانية التي انتهت كحلم في تفجير غادر كان يقصد القضاء على الرجل وبقيت له طفلتاه لتذكراه بالفيونكة التي فشل في أن يعقدها على رأسيهما.
إن تداعيات تلك الأحداث الروائية تذكرني بتلك العوالم الخربة في الروح التي كانت تخلفها الحروب والصراعات الطويلة والتجارب الإنسانية المأساوية التي بدت كمرجعية زورباوية لا تقنع بما دون المستحيل، في ذلك العالم المتخبط الذي ينتهي بامرأة تعبد السلطة والمال الى ركل صور السيد الرئيس، وإلي إهانة رجل الأمن الذي يتزيا في مسوح شيخ من مشايخهم.
من هنا ولدت مع الرواية العديد من الأسئلة فكان حواري مع الكاتب حول مناخات تلك الكتابة .. دوافعها.. وخلفياتها والتاريخ الذي يكمن وراءها، الجغرافيا التي تتشكل فيها تلك الأحداث الجسام شديدة المحدودية .. وكيف تحولت الجغرافيا الى رمز عابر للمكان .. وهل كان العالم الروائي الغني الذي احتوته الرواية اختيار الواقع وحده أم أن الخيال الروائي هو صانعه؟ و كيف زاوج الطويلة بين النماذج الإنسانية المؤتلفة والمختلفة في تلك الرقعة، وهي شخوص تبدو أحيانا على درجة عالية من التنافر وأحيانا على نفس الدرجة من التآلف؟
حول الكثير من الأسئلة تحدثنا .. وهنا الحوار:
* باب الليل متوالية روائية.. تتواصل أحداثها منفصلة ومتصلة في الوقت نفسه .. حدثني عن مناخات تلك الكتابة .. دوافعها.. وخلفياتها والتاريخ الذي يكمن وراءها؟
*ما رأيك أن أستعمل معك التعبيرات الكبيرة التي يقولها الأستاذ هيكل والكتاب الذين يودون تمجيد شخص ما أو واقعة كبيرة فأقول إنني كنت على موعد مع التاريخ، زرت تونس عابراً لمرات ووقعت في غرامها، لكنني أخدت شلوتاً متيناً في عهد حسني مبارك، ركلة قوية في لغة القدم يسمونها ‘كرباج ‘أطاحت بي من جهنم القاهرة إلى جهنم تونس، كانت الدولة البوليسية المصفحة ترقص بتناغم رقصة الدم الأخيرة في كلتيهما، البوليس هناك اسمه الحاكم، رجل البوليس كذلك، في مصر لسنوات كان اسمه الحكومة، في تونس كانت الدولة البوليسية تفتش في نوايا الناس وأحلامهم بينما اللافتات التي تصاحبك في كل مكان مكتوب عليها ببراءة شديدة ‘تونس : جودة الحياة.
فكرت بسذاجة كبيرة للحظة أن تكون تونس محطتي وعائلتي – إن استغلقت الأبواب في مصر – لكن قدم النظام كانت تطبق على كوابيس الناس وتنبح في وجوههم ككلاب الجحيم.
السذج الذين يتباكون على ما قبل الثورات لا يعرفون تماماً معنى أن تعيش تجربة في احتمال التوتر، أسوأ شيء فيها لا يقارن بسلطة تضغط على أنفاسك كل ثانية إن لم تتنفس نيابة عنك !!
لا أحد يتكلم في السياسة هناك ولا يجرؤ سقطت من العلوم الإنسانية ومن كتالوج الحياة، الناس مأزومة تئن تحت وطأة قروض أدخلها النظام في مؤخراتهم ليعيشوا كثيران مغماة لتسديد أقساطها، وانفتح مجتمع استهلاكي يفتش آخر الشهر عن دينار طيب في جيبه فلا يجد، كان لابد من ثقب لتفريغ الكبت والخوف، وجدوا في كرة القدم ضالتهم، أفرغوا فيها جل طاقتهم وتباروا في الاستمتاع بالفوز والانتصار على هزائمهم، كانت الحرب في مكان آخر لكن اللقطة الأخيرة كانت بين أقدام اللاعبين، لم يتبق لهم غير ثقوبهم ليملأوها، يملأونها على عجل يدفعون فيها ما تبقى من خوفهم، هل تعرف أن الإحصائيات سجلت أن أعلى معدل لممارسة الجنس في تاريخ أمريكا كان ليلة 11 سبتمبر يوم سقط البرجان في الواقعة إياها.
حتى أجساد الناس الشيء الوحيد الذي يتباهون أنهم يملكونه بخيلاء وجسارة صارت ملعباً لسلطة تدخلت بين العاشق والمعشوق، شاركتهم فيه بنذالة لم يبزها غير نظام الساقط حافظ الأسد وابنه الخرب.
ثم شاهدت الفلسطينيين شاهدت بقاياهم أو بواقيهم لفظ البواقي أكثر ما يدل عليهم يتامى الثورة وشواهد قبورها – نعم يتحركون طوال اليوم كشواهد قبور حفظوها جيدا، تاهت منهم فقط أماكنها ويتمنون أن تأخذهم أقدامهم ليصعدوا فوق قبورهم ويناموا – عشت معهم حتى النخاع جروحنا واحدة عندما كنت أراهم كنت أرى وجه أمي وهي تخلع أقراطها وأساورها لتتبرع دعماً لهم، كنت أرى أبي الذي أيقظني وأنا طفل ليلة عملية عنتيبي التي حرر فيها الإسرائيليون أسراهم وهو ينوح بكل غضب العالم وألمه : تحيا إسرائيل، مناضلون على المعاش وضعوا أرواحهم في مواجهة غطرسة إسرائيل ليوجعوها وأوجعوها يعيشون أيامهم الأخيرة بجيوب شبه خاوية يتفرجون على مصاري النضال العربي وهي تعبر جيوب مناضلي الليل لمناضلات الليل والنهار، (في العلب الليلية يبكون عليك كما قال مظفر النواب).
كنت على موعد مع التاريخ ! وجدت نفسي رغم أنفي هناك لكنني وقعت في غرام المدينة وأهلها الطيبين، ومناضليها الذين بدوا لي كمانيكانات من البلاستيك يتم تغطيتها بأوراق في مواعيد تغيير الملابس لتبدو مانيكانات بائسة لا تستطيع حتى أن تتباهى بلمعة كاذبة لأزيائها ، وجدت الهزيمة أمامي مجسدة في فلسطينيين وعرب أقحاح يتنفسون هواء مسموماً واحداً.
يا لخيبة أمي، لم تستطع أقراطها أن تنقذ القضية من الهزيمة.
إنها رواية الانكسار والهزائم كما أظنها وانتصاب الخيانة من الخارج والداخل من الداخل في الحقيقة، نحن هزمنا من داخلنا ولم يعد لدينا شيء نواجه به العالم غير أجسادنا التي ظننا أنها صالحة ويمكن الاتكاء عليها، لعل هذا ما دفع شادي أحد ‘أبطال’الرواية ليقول حين خانته زوجته وهو يناضل : خدعنا في الثورة، لا يجب أن نخَّدع في النساء !!
في النهاية هي ليست لعبة لتبادل البهجة والحياة لكنها لعبة لتبادل الانكسار.
* الجغرافيا التي تتشكل فيها تلك الأحداث الجسام شديدة المحدودية .. كيف تحولت لديك الجغرافيا الى رمز عابر للمكان .. ؟
*نعم. مقهى في النهاية .. لكن السؤال: هل كانت اللعبة أن تدخل جعرافيا صغيرة لتحكي التاريخ والواقع، مكان تبدأ به لتلعب على الزمن ؟ هل العنوان نفسه باب الليل: باب يفتح على مكان لتدخل منه إلى الليل معادلاً للزمن ؟
الجعرافيا محددة لكن التاريخ واسع قلاب أوجه والمخاض كبير، ياسر عرفات كاد يصاب بلوثة حين هبط أرض فلسطين وسأل عن المباني المتشابهة، فقيل له إنها المستوطنات، رآها وهي تأكل الجغرافيا، لكنه من المتبقي، وهو ضئيل، حاول أن يلعب على التاريخ، إسرائيل قضمت الجغرافيا لكننا نتشبث بالتاريخ الواسع الممتد، زين العابدين بن على وحافظ الأسد وصدام، أنظمة تشبثت بالتاريخ لتقمعنا جميعاً بدعوى الجغرافيا والأرض السليبة ولو كانت متراً واحداً، قصائد الشعراء تحدثك عن الحوائط التي تسمع، الحوائط التي تتنصت عليك وتطبق على أنفسنا لكننا نشد في يدنا ذيل التاريخ كيلا نضيع، الأسى على الوجوه واحد، هل رأيت أسى متشابهاً في مظهره إلا على وجوهنا العربية؟ الهارب من قمع صدام والأسد ومبارك والبشير وبن علي كلهم متشابهون تقريباً يبحثون عن رقعة جغرافيا صغيرة هي الجسد، لكنه منفتح من جغرافيته الضيقة على تاريخ وأفق واسع.
تاريخنا كان محكوما بالجغرافيا الضيقة طوال عمره تقريباً دعك من الأغاني الوطنية الحركة داخل الأوطان ضئيلة على نفوسنا، هل تتذكر واقعة المخبر الذي كان يراقب نجيب محفوظ حيث كان يجلس أحياناً داخل جغرافيته ويحاصرها لكنه لم يستطع أن يحاصر يد التاريخ في يد محفوظ، الذين كتبوا داخل زنزانتهم الضيقة ما اتسع له الزمن فيما بعد، الجغرافيا الضيقة تصير أحياناً دافعاً لتوسيع الرؤية، عباس كياروستامي المخرج الإيراني الفذ وجعفر بهنامي ومخملباف وغيرهم ضيقوا عليهم جغرافيا الجسد في إيران فصنعوا أجنحة جديدة له تطير به داخل فضاء التاريخ.
حتى جدودي الذي كانوا يعيشون داخل جغرافيا ضيقة وسط براري واسعة لم ينسوا على الإطلاق أن يصنعوا لهم تاريخاً كبيراً رغم أنهم جميعا ولا فخر كانوا من المطاريد واللصوص، صنعوا تاريخاً حتى استطاعوا أن يوسعوا الجغرافيا وهم يسندون ظهورهم لتاريخ صلب من حكايات مزيفة.
المقهى صوت الغريب، صوت من لا صوت له، يصلح هذا كشعار سياسي بالطبع، في العلب الليلة تتسع الجغرافيا أو تكاد حدودها تتلاشى عن بصرك، لكن التاريخ والرقص والغناء يفسحون لك طرق الأحلام والأوهام، رقعة ضيقة لكن الألم كبير والآمال أيضا، تكاد تطير من النوافذ وحتى لو ارتدت وسقطت في حجرك.
في البقعة الصغيرة، واحد يحلم بحرية العودة للوطن وواحد يحلم بحرية الجسد، الغرفة ضيقة والحرية واحدة لكن باب الحرية واسع يحتفي حتى بنضال موءود، قد تؤجل الجغرافيا حلم الحرية لكن التاريخ والتجربة الإنسانية يفتحان لها أبواباً ومنافذ أخرى لتتسع.
بين ظهرانينا شعراء وكتاب عاشوا أربعة في غرفة واحدة ناموا في أوقات مختلفة ليتيحوا لبعضهم مكانا للنوم ومكاناً للعمل، الغرفة ضيقة لكن الأحلام اتسعت وربما الكوابيس أيضاً.
* العالم الروائي الغني الذي احتوته الرواية هل هو اختيار الواقع وحده أم أن الخيال الروائي هو صانعه ؟
*هل هناك خيال كان من الممكن أن يقارب أزماتنا العربية التي نعيشها لترى العراق وسوريا والصومال والسودان وفلسطين على ما نراه هذه اللحظة، هل كنت تتوقع ان ترى الخريطة العربية التي لا يغلبها غلاب على هذه الشاكلة .
لم اخترع مشكلة فلسطين ولا الفلسطينيين ولا تجاعيد وجوههم، لكنني ربما اخترعت تجاعيد الروح، التجاعيد في الوجوه حين تدخل الكتابة نرى منها تجاعيد الروح.
السلطة تصنع الموت وتتدخل أحياناً في شكل الجنازات لكن الناس يصنعون يختارون – صلبانهم.
هل هو الواقع أم قفا الواقع، هل هو الواقع الذي لا يستطيع أي خيال أن يمتطيه .
تعرف، ليلة الانتخابات البرلمانية في تونس، رأيت بائعة الحب الطيبة تقول لصديقتيها الطيبتين جداً حين هما بالانصراف بحثاً عن رزق في مكان آخر : اسهرا كما تريدان، لكنني سأوقظكما في الخامسة صباحاً لنكون أول من يقف في الطابور صباحا ً، حين سألتها لمن ستصوت: أجابت صوتها سيذهب لمن يعطيها حريتها .. صوتت للحداثيين.
عندما كنت في تونس، كنت أتلقى خفية أسئلة عن المظاهرات التي تقوم بها حركة كفاية، ومتى تقوم الثورة في مصر ليثور العالم العربي في إثرها، كان الواقع يسير في جهة الكابوس لكن خيال الناس هو من خلق الثورة.
هناك شخصيات واقعية كثيرة في الرواية أنتجت كل هذه الانكسارات، وهناك شخصيات من الخيال لا بد أنها موجودة أنتجت الأحلام البسيطة، منها حبيبة المغنية، قد تكون حقيقية فيما تواجهه من ألعاب السلطة، لكن الخيال هو من صنع لها أجنحة لتطير وتغني خارج الرواية.
الواقع كان قاسياً بفجاجة لم تسمح للخيال أن يتقدم إلا في صندوق صغير للأحلام وضعت في نهايته بطلة الرواية صورة الرئيس في صفيحة القمامة .صورة بن على كانت على لافتات الحوانيت والمقاهي عند الافتتاح وعيد الاستقلال وذكرى انقلابه لكنني من اخترعت له صورة في عيد الخريف واخترعت عيد الخريف ذاته ليعصف به فيما بعد.
قال صديقي في المقهى: هذه تأتي لتختار كل يوم واحداً من الشباب، وغيره في اليوم التالي، وهكذا، وأضاف: لا يذهب معها إلا مرة واحدة، زيارة أولى وأخيرة، جملتان، لكن اللحم والدم والموسيقى التصويرية واللوك والملابس من عندنا، إنها شخصية باربي في الرواية.
في رواية كهذه الكوابيس من الواقع، لكن الأحلام من الخيال.
* كيف زاوجت بين النماذج الإنسانية المؤتلفة والمختلفة في تلك الرقعة وهي شخوص تبدو أحيانا على درجة عالية من التنافر وأحيانا على نفس الدرجة من التآلف ؟
*ثمة انكسار يقطع كل شخصيات الرواية، رجال منهزمون دخلوها وحياتهم تقريباً خلفهم، ونساء بلمعة الحضور لكنه بريق سرعان ما ينطفئ، الكوابيس تعتقد الكراسي وتملأ الفضاء ومطرقة الأحلام بطيئة جداً كما يقول جمال القصاص، هل يدفع الانكسار أصحابه للتآلف رغم تنافر نماذجهم، هل الجسد هو المصيدة التي يلتقون عندها أو يظنون ذلك للنجاة من سجونهن الخارجية والداخلية ؟ هل يتجسد الوطن أحياناً في صدر حنون لرجل أو ركبة دافئة لامرأة ولو كانت بائعة الحب، بالمناسبة قد يمنحنك كل ما حرمن هن منه بعد أن يخلعن قشرتهن الخارجية، هل هي مزواجة بالسخرية من القدر وتفاصيل الحياة ؟ مناضلون بالروح ومناضلات بالجسد، هل هو ائتلاف اللحظة فقط بينما التنافر سار بين شخصيات وأخرى، أنت قروي مثلي لا تعرف أنه فيما يشبه ملهى ليلي، حين يقوم الناس للرقص معاً تتكسر كل الحواجز وترتطم النوازع قبل الرغبات وتنداح كل الاختلافات تحت الوطأة الفاتنة للحظة وينكسر التنافر لصالح أفق ليلي أرحب.
هل نحن كعرب المثال الناقح على سؤالك هذا ؟ الخليجيون يعتبرون غالباً أنهم الأخيار واللبنانيون شعب الله المختار / ومصر أم الدنيا وتونس أباها مقاربة لمعنى جنسي فقط والأردن أولاً .
أخذتك بعيداً عن سؤالك، لكنه الوجع الذي يسيل من الجميع، رحمة غنت وصنعت البهجة وداست على مآسيها بهما، لكنها حين بكت كانت تبكي نيابة عن الجميع، تبحث عن روح تلقفها وتربت على ما تبقى من أيامها لكنها حين اصطدمت بواحد يروم جسدها تجاوزته وصنعت الحلوى، أبو شندي الذي يكفي وجعه وجع أبطال روايات كان في قلبه متسع لنعيمة بائعة الحب، في قلبه متسع لمهدي الذي يريد أن يذهب مع المارينز ليقتل أخوته، كنت متعاطفاً مع مأساته رغم وقوفه ضد نوازعه، ولا تنس أن بائعات الحب يملكن في أرواحهن متسعاً لبعضهن، إنها مواجهة لضريبة الاضطهاد العام، نعم تآلف رغم التنافر، الذي يريد أن يكون جيشاً للنضال ضد الأمريكان في المنطقة يكون في النهاية جيشاً من بائعات الحب .. يا للسعادة القصوى .
لكن الجميع في قفص واحد في النهاية .
* ‘باب الليل’ تعبير يبدو قرويا .. لكن ليل روايتك يختلف عن كل ليل .. كيف تقيم ذلك الخيال الروائي المحاصر بين معني الليل البهيم في ريف بلا أضواء وبين ليل روايتك الذي تغمره أضواء المدنية بكل مآسيها ؟
*أنا قادم من بيئة تربت على الخوف، لكنها تربت أيضاً على المخاطرة، كنا نعيش في البراري بلا كهرباء ولا طريق واحد معبد، طقس دامس على طرف بحيرة البرلس حيث يحل الظلام باكراً، منذ الخامسة ترى الناس في أقنتها كدجاج مكسور الأجنحة، وينتشر في فضائها أبناء الليل، كان تعبير ابن ليل حاضراً بقوة، ليل كئيب لولا دفء الأمهات والجدات، كنا ننام من الخامسة، ننام دهراً لنصحو على سباعية مخيفة أيضاً تأتي في التاسعة مساءَ، منطقة موحشة كتبت عنها رواية ألعاب الهوى، كل يوم عراك بالشوم وكل شهر قتيل، وكل أسبوع يداهمنا البوليس بحثاً عن اللصوص والمطاريد والهاربين من خدمة الجيش، كان ابن عمي لصاً ظريفاً وهارباً من الجيش مما جعل صداقتنا لضباط المباحث مسألة بديهية !! .
كان الرجال يقفزون حوائط بيوتهم قيبل الفجر ليرووا غيابهم عن أرض زوجاتهم ويغادروا بعد ذلك، صنع ذلك كثيراً من الأسى والغناء المملوء بالغياب والمكتظ بالحنين، لكن جدتي كانت امرأة مفرحة تزوجت من زوجين عشقتهما على التوالي فبدلاً من قصص الغول والرجول المسلوخة انفتح لنا باب أبوزيد الهلالي والزير سالم، حتى كدنا نعتقد أن أهلينا الغائبون هم كلهم ابوزيد والزير .
كان ليلاً ككابوس رغم براءة الطفولة، لذا تلقفت ليل المدينة بأضوائه كأنه جائزة وحضناً للأحلام وقاتلاً للكوابيس، لا أحب أن أنام في ليل المدينة، أريد أن أعبه كأنني أدفع به وحشة الليالي التي كبلتني صغيراً، فارق كبير بين ليل المواويل وعدودات الفقد والعشق وبين ليل يرقص مهما كان الصباح خانقاً وكئيباً .في ليل القرية كنا صيداً ثميناً للطبيعة والبوليس، لكننا في ليل المدينة صيد ثمين لقلة الحيلة والبوليس أيضاً، لكننا هنا تعلمنا كيف نقاوم.
عندما أكتب عن القرية فإنني أجد نفساً ممتلئاً ومحاصراً بهذا الخيال المتوحش الذي لا أعرف هل أنتجته أم هو الذي صنعني، وعندما أكتب عن المدينة أجد الواقع يتقلب في سريري.
* هل كان المشهد الختامي في روايتك نبوءة بكل ما حدث في العالم العربي.. وهل تحولات صورة الرئيس كانت التعبير الجمعي عن متواليات ما حدث ؟
*لن أدعي ذلك، ليس تواضعاً بل قفلاً لباب المهاترات، فالذين ادعوا أنهم بشروا بثورة يناير يصنعون مظاهرة رغم أنني في أحمر خفيف وضعت النعش على باب المستشفى وجهزت الملائكة لقبض الروح، وفي نهاية الرواية تركت النعش على الباب لكن الملائكة تفرقوا إلى أن يحين الميعاد.
سألني الأبنودي أثناء أحمر خفيف عن الحكاية، تعثرت وترددت وقل له كلمة من الشرق وأخرى من الغرب لكنه باغتني: هل هو الشعب المصري؟، قلت: نعم.
صورة الرئيس كانت هي المعادل لسطوع وانكسار السلطة، بالطبع ليست حكراُ على تونس، مرة كتبت عن صور حافظ الأسد التي لا تعد ولا تحصى فقلت: إن الصور مكتظة بالشوارع من فرط وجودها ومحاصرتها لك كأنها تطمئن على خنوعك عياناً بياناً.
لو قيض لك أن تسافر بالبر مرة من الأردن إلى لبنان لطوقتك صور الأسد منذ خروجك من عمان حتى تصل إلى قلب بيروت دون أن تستغرب أن ليس هناك سوى صورة يتيمة لرئيس لبنان وقتها المنكود إميل لحود- وربما لأن لبنان يعج بالرؤساء ومن الممكن أن يجلب ثروة كبيرة من تصديرهم – ، لا تذهب بعيداً: الأمريكان حين غزوا العراق كان عليهم أن يخرجوا المشهد النهائي لاحتلالهم بغداد وإبلاغ العالم به، لم يجدوا أبلغ من إسقاط تمثال حسين أمام كاميرات العالم كله في مسرحية عرفنا أنها معدة سلفاً، الموظفون البائسون القتلة يبتسمون وهم ينزلون صور طاغية ليضعوا صور طاغية جديدا، إسقاط الصور ونزعها عن الحوائط نذير بخروج الطغاة من لحظة الاستبداد والضوء القصوى لمزبلة التاريخ اللهم إلا حالات قليلة مثل ما حدث مع سلفادور الليندي.
صور بن علي كانت هي البضاعة الأولى في كل حانوت، توضع قبل أن توضع البضاعة، منتشرة في كل المقاهي، لكنني وضعت له ثلاث صور في مقهى بطلة الرواية دلالة واضحة على الحضور العنيف للاستبداد والمحبة الفادحة، وحين اقنتصت باترونة الحب التي تمشي في حياتها بثقافة الحياة لحظة انهيار السلطة التي كانت تعوم في بحيرة دمها وأفخاذها، حين أدركت بوعيها اللحظة، كان عليها أن تتقدم بنفس جسارة عهرها لتضع الصورة في سلة القمامة.
فكرت للحظات أن أكتفي بأنها وقفت أمام باب المقهى وفتحته على مصراعيه ثم غمزت بحدة قاطعة لرجل الأمن أن يخرج مطردواً بلا رجعة، دلالة كافية على نهاية حقبة الدولة البوليسية المصفحة التي صنعها نظام بن علي، لكن الصور التي كانت في الحمام تتنظر اتجاه الريح كان عليها أن تجد مصيرها في النهاية علامة أكيدة على التحول الحقيقي، لا ‘التحول الكاذب’الذي صنعه بن علي، كان بن على يسمي عهده بعهد التحول ليقفل وسدنته حركة التاريخ لذا كان يجب أن يكون شاهداً على تحول عهده وصوره إلى القمامة في مشهد أمسكت يدي عن كل حرف زائد أو فكرة مسترخية حتى لا أقع في المباشرة، ولم لا ! نحن واقعون في أسر الرموز والاستعارات طيلة الوقت، نزع أو إسقاط صورة من على جدار تعني انهيار الجدار والنظام كله.
*أنت تقول لحبيبتك أحبك، لكن ذلك لا يعني انك وقعت في المباشرة.
هل فعلتها؟
* خرجت ربما للمرة الأولى على حكايتك القروية وعالمك الأثير الذي أسست له .. هل لذلك علاقة برحلتك التونسية أم علاقته الأكبر بتغير مفاهيمك الروائية ؟
كنت سأكتب رواية عن المدينة، عن القاهرة تحديداً، تنازعتني روايتان، مشيت وراء قلبي فكتبت باب الليل، تعرف في فترة ليست بعيدة صدرت أقوال قاطعة عن أن عالم القرية لا ينتج رواية ربما بسبب أن الصراعات وآلياتها لا تتطور، وأن الأسئلة بها قديمة، ربما أنقذني السؤال الوجودي الذي باحت به ألعاب الهوى، ربما أنقذني القرب من مقارعة عوالم أخرى في أحمر خفيف، لكن الحكم كان عاماً ومن روائيين يبنون روايات مدينية بامتياز، لكن السؤال الذي كان يحكمني دائماً هو سؤال المصير الإنساني، الذي يصدح بالأشواق والكوابيس المعتمة.
قد لا تصدقني حين أقول لك أنني تركت عائلتي خلفي إلا من حنين موجع بالقلب وذهبت لتونس لأكتب هذه الرواية بعد أن قضيت فترة أولى بها، عدت لرحلتي الثانية لدرجة أن الناقد الكبير د. جابر عصفور قال لي: ‘هو كل واحد عاوز يكتب رواية عن مكان يروح له’؟
حيث يقع قلبي أذهب، أنا من تلك الكائنات التي تحدس بالقلب ولو لم يصدقه العقل، لم يتغير مفهومي تماماً، فحيث تجد أسئلتك تضع حمولتك، لكن رحلة تونس كانت قد ملأت القفة بما يكفي ويفيض. في الماضي كنت أكتب في أجواء تونس عن أسئلتي في حكاية عن قريتي / عزت القمحاوي وطلعت الشايب قالا: لو أن من بالمقهى إطلع جيداُ على محتويات القفة لولى جزعاُ، وأظنني لم أكتب بالحنين، لكني وجدت نفسي داخل عالم يموج بالأسئلة ويلوح بخاتمة الانكسارات التي التي قضينا أعمارنا نحلم في أزقة أحلامها، كانت قدم بن على تطبق على رقبة، وثمة عزاء مفتوح يومياً للثورة الفلسطينية، ويتاماها يذرعون المقاهي بحثاً عن جسد يروون له حكايتهم، والأجساد تبحث بدأب عن هزائم جديدة أغرقها فيها طغيان السلطة، وبعض أغنيات مكتومة صدحت في النهاية بثورة علها توقف تدفق الخيبات.
لن أدعي شيئاً، فأنا ابن شعراء، أقرأ الشعر وأرى السينما وأجلس على حافة قريبة من الرواية، دون تورط كبير في الحديث عنها، دون إنكار لما تستطيع أن تحمله من أسئلة العالم وللعالم.
* بناؤك الروائي يقول إن موقفك مما يسمي بالهشاشه والعوالم الروائية التي تكتب من دفتر المحنة الشخصية موقف متجاوز الى بناء عالم روائي موضوعي ومركب في الوقت نفسه. كيف تري الرواية المصرية الآن؟
*سؤال بديع. كتابة المحنة ربما تحتاج للمواويل لمونولوجات قصيرة دون أن أهزأ من غناها أحياناً، محنتنا لسنوات لم تكن لقمة عيشنا وغاب فيها أو توارى سؤال الحرية خلف أسئلة اللحظة وأقنعة الطغاة، كانت فلسطين قضيتنا الكبرى بما تحمله على جسدها من سؤال الحرية، ورغم غرقنا في التفاصيل لسنوات، يبدو أن الهزائم تحيلك للتفاصيل دائماُ، إن على المستوى الشخصي أو الجمعي، أن تكتشف أنك تكتب ولا أحد يقرأ.
لا أخوض في الغالب سؤالاً كهذا، هنالك جيل متقارب في العمر يكتب الرواية بشراهة، يحاول أن يقتل بوعي أو بدونه ما دونه، هل لايدافع عن وجوده بكل هذه الأسنان ؟ ربما.
في الوقت الذي يكتب فيه طارق إمام والفخراني وأحمدعبد اللطيف ونهى محمود وياسر عبد الحافظ ومنصورة عز الدين تجد المنسي قنديل وعزت القمحاوي وصبحي موسى وسهير المصادفة حاضرين بقوة في المشهد، رغم أنهم يكتبون بعيداً عن مركز الدائرة، الرواية أظنها لم تتسع فقط لأشكال كثيرة فقط لكنها استطاعت أن تسمح بهذا التجاور ولو من قريب في شوارع خلفية، ألا ترى معي أنه رغم سؤال الثورة وإدعاء البعض بأنها ليست لحظة كتابة إلا أن عدد الروايات التي صدرت هذا العام تحديداً يفوق الأعوام السابقة، ربما ما يجب أن نتوقف أمامه هو محاولة تدجين شكل الرواية وشكل اللغة تحديداً وووضع معيار محدد للغة بأن تكون بيضاء وإقصاء كل خمشة في أفقها، كأن العالم أبيض أو يجب مقاربته بلغة تبدو محايدة تماماً وغير واقعية البتة في أتون الشكل والمضمون.
في التسعينات كان صبري حافظ يقارب بين الانتشار الفاحش للعشوائية وبين تحطم الشكل الروائي بعد محفوظ وعشوائية البناء وعشوائية اللغة، ورغم تقدم تجارب من لبنان ومن العالم العربي صرنا نعرفها ولو عبر الجوائز وننظر بتمعن لأسئلتها، إلا أننا أمام كل ما حدث في مجتمعنا في شهور قليلة وتوقف البعض لسؤال الواقع الراهن إلا أن الشبكة ملآنة والصيد وفير وجيد، نحن الآن أمام أسئلة كبيرة ولهذا نقاوم أو نسخر بالغناء، لكننا نعود لقواعدنا ونلقي أوهامنا.
نعيش الهشاشة بما يكفي لأن تفيض دموعنا وأن تنطلق صرخاتنا، لكننا في لحظة الكتابة يجب أن نبحث جيداً كيف اصطدمت السيارتان دون أن ننسى الآهة التي انطلقت من داخل واحدة منهما.
العالم المركب قدرنا، أسئلة ربيع جابر وحسن داوود وجبور دويهي في لبنان تجد مكانها بين نصوصنا والقنبلة التي تسمع انفجارها في بيروت قد تجد صداها في رواية في القاهرة، الأشواق بألوان متقاربة والكوابيس أيضا.