وليست الوحدة الإبداعية هروبًا، ولكنها قد تعبر عن حالات الهروب دائمًا وتجسدها على أنحاء شتى. في بعض الدراسات الوحدة دليل على تفكك العلاقة مع الأب ومحاولة دائمة للبحث عن بدائل به. هكذا تكشف عناوين القصائد داخل ديوان “تفك أزرار الوحدة” للشاعرة سارة علام عن هذا الولع الخاص بالاستكشاف والتحديق والتطلع في تلك الحالات الخاصة من الوحدة والتي هيمنت على ذات الشاعرة داخل الديوان وتجلت على أنحاء شتى، هكذا نجد عناوين مثل: «أسلاك الوحدة الشائكة»، و«تدق جرس الوحدة» و«أترك للوحدة خصري»، و«تفكك أزرار الوحدة»، و«أفضي إلى فراشي وحدي»… إلخ، والأمر يتجاوز، هنا، مجرد ورود مفردة “الوحدة” في عناوين القصائد، فهناك قصائد عدة تحضر الوحدة خلالها بكثافة في تفاصيل عالمها حتى وإن خلا عنوانها من هذه المفردة على نحو مباشر، ومن ذلك تمثيلاً لا حصرًا، ما ورد في قصيدة “أدلِّك وجعًا قديمًا” نجد ما يلي:
ككل النساء الوحيدات..
لم أنتظر منك وردة ترطب إثر نزعك في قلبي
كشاعرة تؤمن بالطب البدائي
وضعت يدي على قلبي أديرها
لأدلك وجعًا قديمًا بآخر جديد
هناك دائمًا، في هذا الديوان، ذلك الالتباس والتداخل بين الصور القديمة والصور الجديدة، وذكريات مضت ومشاهد تجيء، ورجل يمضي ورجل يجيء، والجوهر الدال في هذه الأحوال جميعها واحد، علاقات تبدأ لتنقضي وتنتهي، وتبدأ علاقة أخرى بعدها لتنقضي وتنتهي أيضًا. تكرار وتتابع لا يتوقف. من بدايات خاصة بالبهجة وتألق للمشاعر وتوهجها ثم رماد انطفائها، هكذا تتحول الذات الشاعرة هنا “إلى صورة صغيرة في الخلف لا يراها أحد”.
وهنا يواجهنا أيضًا عالم الصورة، عالم البدائل، الجزء الذي يدل على الكل، ثقافة الاستهلاك للحياة والبشر حيث تصبح الحياة “عارضة أزياء ماهرة تبدل ملابسها سريعًا وتنسى دائمًا الأحذية”، والأحذية ثقيلة، الأحذية مرتبطة بالجاذبية والقيد، الأحذية ضيقة، والأحذية لا تتبدل، تظل موجودة، أما الملابس فسرعان ما تتبدل وتتغير وقد تختفي .. والحذاء رمز مزدوج، الحذاء قد يرتبط بالسلطة والحرية، وقد يرتبط التحرر من الحذاء بالخضوع والتواضع وكل ما هو أدنى، قد يعني الحرية؛ لأن الأحرار يذهبون ويجيئون بأقدام عارية، والحذاء قد يعني التحكم في الأشخاص أما خلع الأحذية قبل الدخول إلى الأماكن المقدسة (للصلاة مثلاً) ويعني التخلي عما هو أرضي والدخول في حالة خضوع وابتهال، نرتدي الحذاء فنذهب ونتحرك ونلتقي الآخرين، لكنا وحدنا أمام الله وأمام أنفسنا نكون بلا أحذية، وأمام الناس نرتدي أحذية .. في الثقافة الإنسانية الحذاء شيء له قيمة منخفضة، وكما أنه يستخدم في إهانة الآخرين، والتلويح به أمامهم أو ضربهم به أو التهديد باستخدامه، في الفلسفة اليونانية قيل إن هيرقليطس فيلسوف النار قد ألقى نفسه في بركان فقذف حذاءه وكأنه يقول له “إنك لست حرًّا”! مات الجسد وبقي الحذاء.
أما صورة الرجل، في هذا الديوان، فهي صورة سلبية إلى أبعد حد، إنه حكم جائر ظالم يتعمد إخراج الكارت الأحمر، عند حدوث أي احتكاك مع حبيبته، وهو أيضًا شبح يتم التعلق به، وهو وهم وسراب، وهو كذلك كما في «ترسم الثقوب صورًا»، الرجل هنا أحيانًا ما يكون بطلاً، لكنه سرعان ما يتحول إلى وهم في «دقاتك المترفة»، وهو ظل في «ظل يعرقل بالرقص»، وكثيرًا ما يتحول إلى أثر غابر، كل ما تبقى منه مجرد صورة “أسرع للمرآة” أو ظلال أو أوهام أو أشباح. وهو أيضًا، وكما في «رجل مرور»، “رجل متعجل مراوغ” كثير الاختفاء، “تفاصيلك الجديدة كلها تكمل حدسي ووخز قلبي”.
عيناك خيبة كاملة
كلما نظرت فيهما عرفت أنك حكم جائر
العلاقات هنا كثيرًا ما تكون متداخلة متشابكة، فيها رجال كثيرون ونساء كثيرات، علاقات مع رجل آخر، رجل أو خطيب تركها وصاحب صديقتها أو تزوجها، وتظل علاقتها بالصديقة موجودة، ويظل ظل العلاقة مع الرجل موجودًا أيضًا، وتظل حالة الالتباس في العلاقات مقيمة ومهيمنة على المشهد أيضًا.
وتتكرر صورة الرجل هنا الذي هو أيضًا حكم جائر، شبح، ظل، وهم، سراب، رجل مرور، وهي دائمًا صورة في الخلفية، بديلة لامرأة أخرى، عمليات التبادل للبشر في القصائد أشبه بالتبادل للسلع، والذي يقوم دائمًا بعمليات التبديل والتغير دائمًا هو الرجل، وتؤدي كلها إلى الوحدة؛ وتتفق هذه الصورة السلبية للرجل، الظل، الشبح، الجائر… الخ، مع هذا العالم الذي هو أشبه بعرض أزياء أو عرائس، والشوارع المخيفة منه.
هكذا تتحول الصورة الموجودة في الخلفية، الذات الشاعرة المتكلمة المتروكة المهجورة المغدورة، إلى دمية متكلمة، في «تضيء أسناني» تجسيد لحالة من التظاهر بالسعادة، ليست سعادة حقيقية، بل سعادة الدمى والعرائس الخشبية أو الماكينات ..
تسرق العرائس ظلي
تسمي نفسها باسمي
تعبث حبالها بروحي
تحركني على مسرحها
هي عروس خشبية بين عرائس أخرى مثلها، فاقدة للروح، مفعمة بالأسى، تحركها عرائس أخرى، عرائس تحرك عروس مثلها، والعرائس لسن عرائس، بل فتيات تحولت إلى عرائس، عرائس خشبية، فقدن أرواحهن، سوف تقابلهم الآن كثيرًا في الشارع والمولات والمقاهي وقاعات العرض السينمائي، كثيرات هن الآن في مصر المحروسة، رقيقات جميلات وحيدات بائسات، أو يتظاهرن بأنهن كذلك، أو أنهن لسن كذلك، وتمزيق لمعنى الوجود العبثي هذا كلية.
“يغادر الجمهور .. تتركني الروح”، وهكذا تصبح الحياة في هذه القصيدة وغيرها، أشبه بعرض من عروض في مسرح للعرائس، فيه جمهور وعرائس ودمى يتم تحريكها بحبال صناعية وستار وأطفال يلوحون بالبالونات ويقذفون الورد، وروح تغادر صاحبتها، وبعد مغادرة الجمهور لقاعة العرض تغادرها روحها، الحياة عرض أزياء، حفلة تنكرية، باليه لظلال وأشباح، موتى يرقصون ويعبثون.
هناك مشهدية في بعض القصائد، صور متحركة، كأنها أفلام كارتون أو أفلام بالأبيض والأسود، كما أن فكرة التوزيع المسرحي للمشاهد أمر موجود في قصائد كثيرة داخل هذا الديوان، ومنها تمثيلاً لا حصرًا «مغناطيس جائع» حيث تجسيد لحالات الخوف والوحشة والوحدة أمام ذلك البحر الماكر، بحر الحياة الذي يفتح فمه كمغناطيس جائع يأكل كل من اقترب.
وتجسيد البشر كذلك على انهم وحوش في «جيوبي خاوية»:
أمشي في طريقي
البشر وحوش جاهزة
وهناك حالات مطاردة دائمًا من الآخرين، وهروب دائم منهم، ولجوء متواصل إلى الصمت، أملاً في التباعد والنأي عن الآخرين وهجومهم في “مربط الوجع” “تنسحب فجأة من سلام بارد بيننا، وتترك يدي الحارة تسقط على الرصيف”، وأيضًا “ألا ترد على اتصالاتي وتهمل مواعيدي بأعذار تستكثر أن تقولها”.
وتتحول الوحدة الحقيقية في الحياة إلى الوحدة افتراضية، والوحدة الافتراضية ذاتها وحدة حقيقية أيضًا، وهي موجودة، على نحو خاص، في قصيدة «في سلك رفيع» وموجودة على نحو أقل في قصائد أخرى.
هكذا تهتم سارة علام بتجسيد تلك الوحدة الافتراضية الإلكترونية المحسوبة بــ”اللايكات” والربتات (Pokes) و”الهوم بيج” وغيرها.. وحيث أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي أماكن للعزلة والتباعد الاجتماعي، فأنت وحدك في صفحتك مهما بلغ عدد ما تظنه لديك من أصدقاء، إنها صداقات افتراضية لأزرار و”ماوسات” و”لايكات” و”كومنتات” و”بوكات”، صداقات تبدأ مع فتح الصفحات وتنتهي بإغلاقها.
ضغطة اللايك ربتة كتف أحتاجها
أعد ربتاتك الافتراضية
التفاتك للقصائد التي تعرف أنها لك
هكذا تحولت الربتات الحقيقية إلى ربتات افتراضية، وتحول الحب والتفضيل والإعجاب الحقيقي إلى حب وتفضيل الـLike الافتراضي وليس الحقيقي، وتحول البيت الذي كان ينبغي أن يجمعهما معًا، في الواقع تحول “هوم بيدج”، وإلى أسماء تظهر وتضيء إلى يمين القائمة “انتظاري الطويل لاسمك يضيء في يمين القائمة وتجاهلك انطفائي عمدًا” أشياء تومض وتنطفئ، ومشاعر تومض ولا تنطفئ في عالم بارد شاحب مصطنع، يجسد العزلة الحقيقية للذات في هذا العالم.
في «يحضن خصري» و«مبتل بالحكايات» حضور أيضًا لمفردات للعالم الافتراضي الذي يتداخل مع الوحدة الموجودة في العالم الحقيقي.
وتكون الكتابة محاولة للتعبير عن الألم والوجع والفجيعة والمقاومة وأحيانًا الانتقام ويتم استدعاء صورة الأم في “طحالب صغيرة” وإنها لصورة خاصة بامرأة قوية تقاوم السيول والعواصف والبروق والرعود بالمعنى الحرفي الحقيقي والمجازي الاستعاري كي تحمي أبناءها.
أما الأب، الرجل، صورة الذكر عمومًا، أب غائب، وجد واهن ضعيف، بينما الأطفال الثلاثة يبكون الهول..” يبحثون، وتبحث الذات الشاعرة هنا، عن الأب، الأب الغائب، الأرض الثابتة، البديل وما وجدت البديل أبدًا، لأنه ما من بديل.
وفي قصيدة «كل مرة كأول مرة» تحلم برجل نقيض للرجل الشبح، غير المكتمل، وهي تحلم برجل..
“يحب جنوني،
يوقف سيارته ليُقبلني في منتصف طريق سريع”
هكذا تشكل احتلال العلاقة بالرجل الحبيب، أو الأب، أو الرجل بشكل عام وما يكتنفها من الألم والخذلان. المحور الأساسي في هذا الديوان وكل شيء يؤدي إلى الاستغراق في الوحدة، ومن الوحدة تخرج الكتابة، وهي كتابة عن الوحدة، كتابة قرينة للوحدة..
“كل شيء صار مؤقتا
إلا إخلاصي للكتابة كقارب”
وتدريجيًا تتحول عملية التصوير لحالة الوحدة الذاتية داخل الديوان إلى عملية تصوير لحالة الوحدة الجماعية، الوحدة التي تجمع الوحيدات كلهن، وتتوالى عملية الكتابة عن قصص لا تكتمل، وعمليات فقد لا تتوقف، ومفاجآت غريبة في الحياة، وعن النساء الوحيدات:
“الأمنيات الواحدة أثمان فادحة
ندفعها للرب ثمنًا للفضيلة
يشقينا الشعر
ولا يروق لأحد”
وتتبادل الصديقات الوحيدات السجن والمعاناة واللوحات والقصائد، وقد تكون اللوحة لوحة في القصيدة، صور ومشاهد في القصيدة، في اللوحة – القصيدة ظلال ورموز، جوانب مبهمة غامضة، وأشياء لا يتم البوح بها، لكنها أمور يمكن أن تحدث عند هؤلاء اللائي تشاركن مثل هذه الوحدة القاتلة في زمن الرجال الأشباح والحكام الجائرين.
وقد تتحول الوحدة أيضًا إلى طائر خائف، يبني عشه، ويكثر من الشوك حوله، لكن الشوك يفسد العش.
“تتحسن حالتي بالشعر
وحدها القصيدة
تجلو صدأ القلب”
وفي «تموت الموسيقى لكل حفل» نسمع صوت الكمان ومواء القطط الشبقة، موت الموسيقى، القلق، خيالات على المقاعد، مطرح تنوح وتوحد مع عالم القطط الوحيدة، مغادرة الأوبرا، معانقة الوحدة. ومثلما تجسدت الوحدة في صورة طائر يبني عشه فينهد في قصيدة “يؤرقها الشوق..” فكذلك تتجسد الوحدة في تخييلات متتابعة في صورة رجل متخيل يراقصها في قصيدة «أترك للوحدة خصري»، مثلما كانت وحدة في الأوبرا فهنا أيضًا وحدة في مكان الرقص (المرقص). وخلال الرقص والغناء يتحول المتخيل إلى وهم، والحبيب إلى شبح، وتصبح الوحدة هي الحبيب، هكذا تتخلق الوحدة وتتجسد و”تتأنس” (نسبة إلى الإنسان) وتتحول إلى بديل للغائب المفقود… الأب، الحبيب، الإنسان، شقيق الروح.
في «تفك أزرار الوحدة» هناك قروح وجروح وآلام وأوجاع وذكريات، حب يأتي ويذهب، فشل لا يتوقف، وإخفاق لا يريم، وِحدة وقصائد عن الوحدة، وحدة الذات ووحدة الآخرين – الأخريات، وقصائد تبحث عن طريق للخروج من الوحدة.
“الوحدة ماكرة،
والحب أخضر،
والقصيدة تحفظ طريق انتصارها”
هنا في هذا الديوان مثلت العلاقات الوجودية تجمع بين الوحدة والحب والقصيدة داخل أتون هذه الذات.. وهناك دومًا تلك المحاولات التي لا تتوقف للبحث عن الحب .. الحب الحقيقي، المكمل، وليس الرجل الشبح أو الظل أو الجائر أو الأشبه بالوهم، لكن الوحدة تظل مهيمنة، وتكون الكتابة محاولة للخروج من الوحدة وإيجاد الحب .. وهكذا فإن الذات تظل تدور في دائرة مغلقة لا تخرج منها إلا بالكتابة والشعر والإبداع.
وهناك بعض المقاطع القليلة في هذا الديوان كان الهاجس المهيمن أكثر من الوحدة فيها، هو الرغبة في الإدهاش والمفارقة والاستباق للتناقض المتوقع أو الإرهاص به .. وعلى نحو يشي بوجود ظلال كلاسيكية شبه تفعيلية .. ربما تجاوزتها قصيدة النثر الآن كثيرًا.
لكن هذه المقاطع قليلة الورود، على نحو واضح، في هذا الديوان.
لدى سارة علام قصائد الحب هي نفسها قصائد الوحدة، وقصائد الوحدة هي نفسها قصائد الحب، وفيما بين الحب والوحدة هناك المقاومة بالإبداع والكتابة، وهناك المحاولة الدائمة للخروج من تلك الوحدة بالرقص والغناء والتحليق والصداقة.. هنا جانبان إيجابيان: الحب والكتابة، في مقابل سلبي هو الوحدة، لكن السلبي هنا يهيمن على الإيجابي، وتبقى الكتابة أشبه بالعامل المعدل الذي يخفف من وطأة الوحدة ومن خيبات الحب.
هنا الوحدة عامل سلبي، هنا الحب عامل سلبي/ إيجابي.. وحدها الكتابة هي الإيجابية، وحدها الكتابة هي المعبر من الوحدة إلى الحب، ومن الحب إلى الوجود الحقيقي الذي يطوي الوحدة ويتجاوزها، الوحدة التي تجلت في هذا الديوان على أنحاء شتى.
*نشر بجريدة القاهرة