بمعرفة غير مدعاة بدروب المدينة وأهلها، يتنقل علاء خالد في «وجوه سكندرية» الصادر عن دار الشروق، بين أمكنة وأزمنة مختلفة، موثقاً صفحات من حياته الشخصية وحكاياته مع الإسكندرية، وكذلك حكايات الآخرين، ولا يكتفي الشاعر والروائي المصري بذلك، بل يضرب في جوانب أخرى، مفتشاً عن الإسكندرية في مرايا مبدعين آخرين، مصريين وأجانب، مستدعياً قائمة طويلة من عشاق «المدينة البيضاء»، وفي مقدمتهم لورانس داريل، وفورستر، وكفافيس، ونجيب محفوظ، ويوسف شاهين، وإدوارد الخراط، وإبراهيم عبدالمجيد، ومحمد جبريل، وآخرون سطروا جانباً من تاريخ المدينة الإبداعي والاجتماعي ربما.
توريط القارئ
تجفو الأمكنة في أحايين كثيرة ساكنيها، وأيضاً زائريها، وترفض أن تمنحهم روحها، أو تعرفهم بتاريخها المستتر في اعماقها، ولذا تبدو بعض الكتابات عن الأمكنة مجرد «بروشرات» سياحية، ودليل صامت لا يكشف عن أصالة، بحيث يبعد ولا يقرب، لا يستطيع أن يصنع حالة من الألفة بين القارئ والمكان.. على خلاف ذلك يأتي علاء خالد في كتابه «وجوه سكندرية» الذي يقع في 289 صفحة، إذ ينجح في توريط المتلقي في حب تلك المدينة التي تستحق، يطوف به في أرجائها، يتحسس معه جدرانها الخشنة، وشوارعها المنداة بالطل وببخر البحر، يتجول بين أزمنة مختلفة، ويسرد حيوات أناس منسيين، عاشوا على الهامش، ربما لم يتذكرهم أحد: بائعة ورد، وعاشق أغان هندية، وبائع روبابكيا، وعانس تدير مقهى قديماً، ونماذج أخرى التقطتها عين علاء خالد، ورسمت لها بورتريهات تتحرك وتسعى بين صفحات الكتاب. يقول علاء خالد في استهلال «وجوه سكندرية» الذي صدر العام الماضي: «ولكن هشاشة الذاكرة، والتهديد المستمر لها، سواء بسبب المرض أو بسبب أوضاع سياسية تريد أن تقتص منها، تجعل دائماً الذكريات والأحداث في مهب الريح، تجعل النسيان أحد أبطال الحياة. إنها محاولة لإيجاد صيغة بين الذاكرة والنسيان. عندما تنطق أمامي كلمة ذاكرة أتحسس رأسي بحنان. أتخيل هذا المكان الصغير الذي يحوي كل هذه الذكريات والمذاقات والأحاسيس. هذا المكان المهدد دائماً بالنسيان، أو المرض، ولكنه سيظل مكان التأويل المستمر للحياة، برغم هشاشته. وخارج تلك الأوضاع الطارئة كالمرض أو الديكتاتورية، واللذين يهددان الذاكرة، بالتأكيد سيكون لهذه الذاكرة قوة أكبر في التأثير والتبادل، فنحن حتى الآن لم نر ذاكرتنا خارج لحظة التهديد المستمرة. أشعر أنني بكتابتي هذا الكتاب، أقوم بالفكرة نفسها. ليكون هو الذاكرة البديلة للمدينة كما عرفتها وعشت فيها. لتاريخ نوعي، ستقتص منه أجزاء وفترات، لا لشيء سوى إرادة النسيان”.
تأريخ مختلف
بمجرد مطالعة الصفحات الأولى من «وجوه سكندرية» يستشعر القارئ بأن ثمة تأريخاً مختلفاً للمدينة وأهلها، يسطره قلم خبير بالمكان، وليس مجرد كاتب استهواه تغيير الحيز، والذهاب الى بقعة مختلفة تمثل للبعض استراحة أو مصيفاً يلجأ اليه حينما تشتد رطوبة العاصمة القاهرة، إذ ينقش علاء خالد في كتابه خريطة، وربما خرائط، حية للإسكندرية، فتتشابك جغرافيا المدينة بتاريخها بروائحها بحرائقها بأحيائها العشوائية بعزها القديم بجالياتها الأجنبية بصعاليكها بأثريائها الجدد، وغير ذلك من صنوف البشر وعلامات المكان القديمة والحديثة التي تتحدث عن نفسها في الكثير من صفحات الكتاب. واللافت أن علاء خالد يسرد ذلك، وهو متحرر من الحنين المرضي الذي يستولي على كتابات كثيرين، فلا يقع قلم خالد في أسر الرثائيات، والحديث الباكي عن الماضي الذهبي، بل ثمة وعي يحاكم الماضي والحاضر أيضاً، يوثق صورا قديمة، ويستدعيها من دون إضفاء هالات عليها، يفتش في زواياها، ويستنطق معالمها بحنين مختلف، يحبها لكن لا يقدسها، ويصفها دون أن يتسمر عندها. في «وجوه سكندرية» تبرز وجوه المكان وناسه، تنعكس ملامحه على ملامحهم، وربما العكس أيضاً، يتجاوز علاء خالد أكثر من حيز، وغير شخصية، فثمة بحر وكورنيش وترام ومقاه، وأيضاً عمّار تلك الأمكنة الذين يبثون فيها الحياة، يتفاعلون معها أو يشتبكون بها، فتختلط مصائرهم بمصائرها كبائعة الورد، والثري الذي أممت الثورة ممتلكاته، ولم يبق من عزه سوى سيارة تلفت أنظار سارد الحكايات في «وجوه سكندرية»، وأيضاً هناك الرجل المفتون بالأغاني الهندية، الذي يقف في الإشارات شادياً بها، ومقلدا حركات أبطالها الذين يشاهدهم في الأفلام، وغيرهم كثير، ممن يحرص الكاتب على سرد تفاصيل لحياتهم، وليس الاكتفاء برسم وجوهم فحسب.
عن إحدى الشخصيات المستدعاة من الذاكرة (بائعة الورد) يقول علاء خالد «كانت لعايدة القدرة على أن تظهر في أماكن مختلفة عدة، وربما في التوقيت نفسه. سأراها تمر بورودها الذابلة بجوار المقهى الذي اعتدنا الالتقاء فيه نحن مجموعة من الأصدقاء، ثم سأراها مرة أخرى عند إشارة المرور التي تبعد كيلومترات عن المقهى، عندها ستصيبني الدهشة، وأتساءل بيني وبين نفسي: هل قطعت تلك المسافة الطويلة سيراً على الأقدام لتبيع ورودها للزبائن؟ من الصعب أن تهرب من عايدة ولا تشتري ورودها. لو رأتنا جالسين على المقهى فستقدم بقلب قوي وتضع ورودها على المنضدة، ونبادر جميعنا بأن نمنحها ثمن هذه الورود، فهي في عرفنا لها مرتبة تسمو عن كونها شحاذة، إنها تبيع شيئاً له ثمن، ثم تسمع تعليقها: (يا غالي)، بهذا الوجه الأسمر، والإيشارب الصغير الذي تخفي به جزءاً من شعرها. منا من كان يمنحها سيجارة، والسيجارة ليست عوضاً عن النقود، وإنما عربون محبة لصداقة امتدت لسنوات طويلة. وعندما تنتهي جلستنا على المقهى، ننسى ورودها، كالعادة على المنضدة، ومن دون أن نمسها». ويعكس كتاب «وجوه سكندرية» وجوه مؤلفه الإبداعية، فكما أن علاء خالد شاعر وروائي وصاحب قلم نقدي، فالكتاب حافل بكل هذه الألوان، إذ يستشعر القارئ بأنه أمام شاعر وسارد وتشكيلي، يسرد الحكايات ويلونها، لتجتمع في النهاية رواية كاملة بطلها المكان ربما، وفي الكتاب جانب من السرد الذاتي الذي يشبه السيرة، إذ يسلط الضوء على جوانب حميمة من حياة علاء خالد، توظف هي الأخرى في النسيج العام للكتاب الذي تتجاور فيه الأنواع الأدبية، ويتماس فيه الموضوعي مع الذاتي، طرف من حياة الكاتب، يتجاور مع خيوط من حيوات آخرين، جمعهم ذلك المكان الاستثنائي الإسكندرية.