منذ البداية أرسل الكاتب بخيوط الأحداث والشخوص، ولم يبخل على القارئ بمعطيات التوقع والاستشراف، ورغم ذلك تحداه -وكذلك يهوى الخمايسى -فى التوقف عن الاستمرار فى الرحلة، رغم علمه مسبقا أنها لن تصل ابدا، وجذبه الى معترك السرد وتوتراته وجرأته التى لم يعهدها، وخاصة في التعاطى مع الدين..
(صنع الله) الشخصية الرئيسية، ذلك النبى الأزلى معظم الله ومذل الداعين الى استعذاب الموت، يدعو أبطال الرواية فى مواقف متفرقة ليؤمنوا بأنفسهم أولا، وأن بداخل كل منا نبى ورسالة، والاستخلاف يستدعى أن نكون ممثلين لله على أرضه والتحررمن عبودية من سواه وقدرة الانسان على الخلود، ويكفروا بالفكرة المحتلة والضفاف الآمنة و الميراث المشوه و الارادة المستلبة، وتعليق الأخطاء على القدر، وفى نهاية الرواية بدأ التشكيك فى كونه وهما أم حقيقة، لولا وجود أحد الفصول الذى تحدث فيها السارد عنه دون تدخل من أذهان الشخوص، ولو تركها للحيرة بين الوهم والحقيقة لكان أفضل فى رأيي، وهناك تلميحات على أنه الخضر معلم موسى، ولكن لم نعرف عن الخضر أنه كلف بدعوة، بل على العكس لم يتخذ من موسى رفيقا إلا بعد الحاح، وتخلص منه بعد تعجيز عن مجاراته ،فكان فعله عن أمر من الله فيحقق بسببية البشر ما أراد الله بحكمة ..
(صنع الله) النبى الخالد وسط الفانين، وأحيانا فى صورة طائر له عشر ريشات خضر ولحية أسفل رقبته يحلق فى الفضاء بلا قيود ،يتعلم الحكمة من حمق البشر ويراقب العصافير التى توقفت عن الصلاة؛ لإنشغالها بالخوف وتعليق بؤسها على السماء ، فتموت روحها فى حياتها مرات، قبل ان يفنى جسدها مرة.
استعمل صنع الله القوة والعنف مع ممثلى الأديان فوجه لهم صفعات قاسية مقابل هشاشة إيمانهم وسطحية عقولهم وضياع مسئوليتهم ،فكان إيمانهم به مجاراة وهروبا وليس عن قناعة، أما بقية الشخصيات، فتعامل معهم بأفاعيل تختلف على حسب مخاوف كل منهم وما يؤرقه، وجاءت بعض الشخصيات الثانوية ساعدت على اظهار الأفكار وتشعبها وتوضيح الشخصيات الرئيسية وصراعاتها ..
بعض الشخوص تعامل معها الكاتب انسانيا بعمق عن الآخرين، ومنهم رشيد الذى ضاع بضياع ابنته، فعندما استغرق فى الشكر ضاعت منه عطيته ،واستغرق فى الماضى فضاع منه الحاضر، واستغرق فى الصورة فضاع منه الأصل ،وعلق كل شىء على السماء فماهت من تحته الأرض ..
وسوسن كانت المعادل الموضوعى للفطرة والغريزة بلا أعراف أو مبادىء أو دين، كان اهتمامه يتناولها ككائن يكتشف ذاته ودنياه بلا وسيط ،تعرفت على الحياة بممارسة الحياة وإن كان بقسوة، فى مجتمع لا يجتمع إلا لزيادة البؤس والبؤساء، تعرفت على وليدها الذى لم تراه إلا لساعات معدودة وفى الظلام، وضاع منها فميزته من الوهلة الأولى فى السيارة !! وتينة تحت إبطه كالأفلام القديمة لم ارتاح لها !!
و ياسر المجند الذى يكره النصارى ويستبيح كرامتهم ،رغم أنه يدعى الكرامة، ولكنها كرامة الذات وليس كرامة المبدأ ،كرامة يواجه فى سبيلها المحاكمات والكلاب، والتى كانت رمزا للمهانة والقسوة والسلطة المسعورة، ولكنه لا يواجه عواقب تعديه على كرامة غيره ..
اعتمد الكاتب فى إظهار شخصياته على ثلاث معطيات :الحوار ،والسرد المتقاطع والمنولوج الداخلى، وإن ظهرت الشخصيات بملامح ضبابية لم تعتمد على الملامح الشكلية وإنما الإنطباعية والذهنية، فالوجه ثعلبى أو جميل أو قبيح، وتجاهل تحديد درجة التعليم والعمر مع بعض الشخصيات، فأقسم درديرى السائق فى بداية الرواية أنه فى هذه المهنة لثلاثين عاما، فأعطى انطباعا بسن أكبر من الخامسة والثلاثين كما كشف السارد بعدها بفصول عدة !! وكذلك تجاهل الدوافع مثلما حدث مع خميس، والذى لم يعطى السارد أدنى اشارة لم خانته زوجته، وكذلك لم يحدد عمره أو تعليمه فيما قد يضىء بعض الجوانب !! وما كان بين ياسر ونوال وتداعياته !!! وحتى هروبه دون ندم، أهذا هو الجندى العاشق المعتز بكرامته !!وهل فى ذلك اسقاطات قاسية لأوضاع ما !! ؟وخاصة بعد تصويره لما يحدث من البعض فى الوحدات العسكرية من تعنت واهدار للأنسانية والكرامة، وليس تمجيدا لها كما يجب ان تكون العسكريه..
ترك السارد بعض الفراغات، كظهور سوسن كبنت ذوات ،رغم كونها بنت الشوارع التى لا تبتغى من وراء جسدها المال بقدر ماهو اتباع غريزة !! وذلك الحنان الغامر من بائعة المناديل مع طفل هى خاطفته !!وتواجد سوسن والمجرى ف ذلك الفندق دون داع !! ومشهد زياد وزهر المستكى الذى تشعر بأنه مقحما على السرد بلا أهمية حقيقية،أو أن فيه استطرادا كان من الممكن ايجازه، وموقف خميس من زوجته لحظة اكتشاف خيانتها، فالطبيعى ألا يملك نفسه فيقتلها دون تفكير ثم تأتى التفاصيل !!! كما أن بعض الأبطال نطق بما لا يتهيأ لهم كأسلوب وفلسفه، كسوسن ابنة الشارع والسائق البسيط ،أم أن كل ذلك ما هو إلا متناقضات البشر وانحرافاتهم الحادة !!؟..
ومع تعددية الأصوات وزحامها ،استطعت تمييز صوت الكاتب من بينها بوضوح وخاصة فى حوار زياد وزهر ،قد يكون ذلك بسبب قناعاته وايدولوجياته التى ينشرها باستمرار …
دعا صنع الله بعض الأبطال فقط وليس الجميع، وجاس بنا فى نفوس اذا استعذبت الموت وسعت إليه لم يكن ذلك مستغربا منها !!
فقد دعا النصاب ،والجندى ،والمثقف، ورموز الدين القس والشيخ الأزهرى فقط ،هل هؤلاء هم الأحق بأن يصيروا دعاة للخلود وتحرر العقل والإستخلاف !! وظهر للسائق والأب لكن دون دعوة ،ولم يظهر أو يدعو العاهر والقاتل وبقية الركاب ، والذى لم يكن جميعهم فاعلين ،أم أنه دعاهم ضمنيا !!؟؟ والباقى مجرد عدد أكمل الميكروباص لتبدأ الرحلة ،هل كان هؤلاء بعضا من القراء يتواجدون وفقط !!!؟
ولم هذه النماذج بالذات !!؟ قد نفهم دعوته لرموز الدين والمثقف الكاتب ، لكن لماذا يدعو النصاب والجندى مزدوج المبدأ، ولماذا لم يدعو الباقين !! هل لأن النصاب فيه من الصفات التى تصلح للتحايل على البشر واقناعهم حتى بالباطل فما بالك بدعوة نبى !! ؟هل لأن الجندى اذا علم بخلوده لم يخف أو يهاب وفعل ما يتعين عليه دون وجل من موت أو فناء وصارت كرامته كرامة مبدأ !!؟ هل لم يدعو خميس لانه اعتبره ميتا بالفعل بعد أن طعن مرتين ،مرة فى قلبه وكرامته، ومرة فى قتله من يحب !!؟هل لم يدعو رشيد لأنه مستغرق فى الماضى ولا يصلح للمستقبل، وفقد روحه عندما فقد بعضه !!؟ ولم يدعو السائق هل لأنه هوائى يخاف السؤال ليبقى مؤمنا صالحا، ومن يهاب السؤال لا يصلح للدعوة!؟، كما أنه لا ينتظر من الله فرجا او كرما ولكنه يتبرك بأوليائه ورموزه !!؟ وسوسن هل الفطرة فيها تغنى عن الدعوة !؟ولماذا واجه الجميع نفس المصير، حتى بائعة المناديل امرأة صنع الله والطفل الذى معها، هل لأن الطين جميعه يحتاج الى العجن من جديد !!أم لأن الله قد اختار الانسان كخليفة ف الأرض مع علمه بأنه قد يفسد ويسفك الدماء ولم يختار من يسبحون بحمده ويقدسون له فهو يعلم ما لا نعلم !!
فى فصول تقطع لتصل وتصل لتقطع، ساعدت فى إضفاء الإثارة والبعد عن التتابع الكلاسيكى للسرد، فتفيق القارىء من الإسترسال والثقل الفلسفى ،وإن أثرت بالسلب على اكتمال صورة كلية بارزة فى الذهن والإندماج فى الحكى ،فتطلبت التركيز الشديد، فكانت الفصول كومضات الذكرى ،وهكذا كان زمن الرواية استرجاعا فى معظمه ،تقافز فيه السارد بين اللحظة والماضى القريب والبعيد، فى تداخل متقن، فتراصت فى السيارة الأجساد والأفكار فى نفس الإتجاه على طريق واحد، تتسارع نحو اللاعودة، فزمن الرحلة محدود، لكن الرواى العليم .. والعليم جدا أحيانا !! مع انطلاق السيارة انطلق فى السرد والحكى، متوقفا عند كل شخصية زمنا يتراوح بين القصيروالطويل نسبيا، فإذا ما طالت وخاصة مع الجانب الفلسفى الذهنى، كانت تصاب الفصول أحيانا بالجفاف والتوتر والثقل، وخاصة فى الثلث الأخير بعد أن اتضحت الدعوة وتواترت..! والسرد المتقاطع توقف عن النمو فى مرحلة مبكرة نسبيا ليتحول إلى نوع من تجميع ما تناثر وومض فى الفصول من معطيات ومقدمات لنصل إلى النتائج المستشرفة منذ البداية ..
وكالعادة أيضا أثار الخمايسى علاقة المسلمين بالمسيحيين فى مصر ،وخاصة فى صعيدها ،وأن الجميع عبد لما تربى عليه وشربه عن ملقنيه من حياض التطرف والجمود ، وكان ذلك كرجع الصدى عن منافى الرب، والتى تناولت غير قليل من الأفكار هنا ،ولكن من زواية مختلفة، ففى انحراف حاد طغى الجانب الذهنى التأملى على الجانب الإنسانى، بعكس منافى الرب، والتى كان التناول الإنسانى أوفر حظا، وفى فضاء سردى أرحب وأنقى ،ودون مواجهات أو تساؤلات صادمة، فليس مستغربا أو مستبعدا أن يستريح القارىء أكثر لمنافى الرب كما صرح الكثيرون..
الانحراف كان حادا، ليس فقط فى الأفكار المطروحة وطريقة معالجتها، فكذلك فى اللغة التى كانت متوثبة خلاقة، والعبرة ليس باستخدام لغة فصحى أو عامية، انما ما يهم هو ان تكون اللغة فنية، وان كنت أفضل الفصحى ..
هل كانت الأسئلة المطروحة من صنع الله موجهه للشخوص أمامه، أم لمن يقرأ أيا كان زمانه ومكانه ! فأراد أن يلقى حجرا فى المياة الراكدة ،وينبش قبورا من عقول جمدت ،وينفث روحا فى أفكار صارت أصناما نصبت، ليعيد لنا تساؤلات فى مسلمات، لندرك بعقل منفتح مؤمن بقدرته ،ولنعرف الله بصنع الله وليس بصنع البشر..وان كانت الفلسفة صادمة ،وتستدعى الارتباك والخوف من مواجهتها ،وخاصة باقحام رموز مقدسة فى السرد والحوار، فوضع الخمايسى عقل القارىء تحت محك الاختبار بقوة، ليس لاثبات او نفى اى حقيقة ،بقدر ما اراد ان تتداعى كل الثوابت، لترسيخ اليقين عبر الشك والمعرفة الحرة ..
جاءت النهاية متواصلة وكأنها مقبرة الفرص الثانية، وكأنهم البشر جميعا مستنسخين شكلا وعقلا، يتجهون إلى نفس المصير اختيارا واجبارا ،بعضهم فى قاع النهر وأمثالهم على الشاطىء، يكملون الرحلة على ذات الطريق فى استسلام وأوهام وشكوك، ليتبادلوا الأماكن فى شبه اتفاق ضمنى على القرار الأخير..
كان من الممكن أن يموتوا جميعا فى بداية الطريق، لولا انحراف حاد أشار به صنع الله على السائق فأنقذهم، ثم ماتوا جميعا بسبب انحراف حاد لعجلة القيادة فى يد السائق ودون سبب معلن لهذا الإنحراف !! جمعهم صنع الله على الطريق جمع الأشتات والأعداء والأشباه فى رحلة الى شجرة الإثم ،وحيث توقفت العصافير عن الصلاة !!عندما توقفوا هم أيضا !! حتى صورتهم بعد الموت وكأنها رسم على جدار قبر فرعونى يصور حياتهم بإيجاز وتكثيف ..
إذن فقد اختاروا الموت بوعيهم المحدود بحدود القدرة والأفق، فالإنسان يهاب المعرفة ويهوى الحكم على الأمور دون معرفة، حتى يستطيع أن يعلق أخطائه على غيره ،وإذا امتلك المعرفة فإنه يبدأ فى توهمها، حتى لا يواجهها فيواجه ذاته القبيحة المشوهه ،وكينونته المهترئة بلا ملامح أو ظل أو امتداد..
إذا نظرنا الى علامات الإستفهام والتعجب فى القراءة التى بين أيدينا، لعلمنا يقينا أنها رواية تشتعل معها الرأس تأويلا واحتمالات، دون ادعاء الصواب أوالخطأ،فهى رواية ولا ريب تظلمها القراءة الأولى أو السطحية، فالتحليل أوالقراءة لهذه الرواية قد يقترب من حقيقتها أو يبتعد..وفقط ..!!فذكاء الخمايسى كان (حادا) هو الآخر، فجعل من السارد والشخوص جميعا من يرد عنه، فيراوغ كل ادعاء أو التباس أو مفارقة فى رواية زئبقية،لاعبا على أوتار الوهم والحقيقة والفلسفة الجدلية والوجودية الخلاقة…
انحراف حاد عن المعهود للخروج من الحجرة الضيقة ولهب الشمعة الضعيف إلى الشمس المنيرة وتحطيم الأبواب، حطم الباب واخرج واستنر.
……………..
*كاتبة مصرية
