“منتصف الحجرات”: ساحة صغيرة للتأمل البطيء

الموت البطيء في "منتصف الحجرات"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مينا ناجي

"فأنت في منتصف حجرة وفي منتصف الحجرات ليس على المرء سوى أن يتمدّد واضعاً طوبة تحت رأسه وفي ملابسه البيضاء المشدودة بإحكام على عظامه يمكنه بالكاد أن ينسى".. هكذا تنتهي قصة حب كان مسرحها الغرف والحجرات. قصة في شكل يوميات عاشق يتأمل في كل شيء من طريق الحب، ويسرد ما يحدث من تهويمات عاشق في علاقة  كوَّنت القسم الأول والأكبر "وراء الباب" من ديوان "منتصف الحجرات"، الذي أصدره الشاعر أحمد يماني المولود في القاهرة العام 1970 عن دار ميريت للنشر (2013)، وهو الحاصل على ليسانس آداب لغة عربية ومقيم في إسبانيا منذ العام 2001 ليكمل دراساته العليا بجامعة كومبلوتنسي مدريد، وقد أصدر سابقاً أربعة دواوين كان آخرها "أماكن خاطئة" (2008)، قبل خمسة أعوام من ظهور عمله الحالي.

ربما تكون هذه الرغبة النهائية لنصوص يماني في ديوانه “مُنتصف الحجرات”، والتي تمظهرت كشيء قدري ينتظر في نهاية المطاف؛ الرغبة في التقمّط والتكفّن ومن ثم الثبات والهدوء والنسيان، “الباثوس” بلغة التحليل النفسي، رغبة تشدّ كلمات العاشق وتصفيها وتقطرها فتبدو كبوح هامس للتأمل البطيء نحو الموت. يكتب يماني في القسم الثاني من الديوان تحت عنوان “النائم الذي لم أره”: “صنع لنفسه أقماطاً من القماش، حشاها قطناً وخاطها بنفسه لتناسب حركة رجليه القصيرتين (…) كانت الأقماط قد أذنت بعودته، لقد كان صغيراً جداً لدرجة أنه سيتلاشى نهائياً عما قريب”. هذه الرغبة في التلاشي والانتهاء استدعتْ نقيضها على طول العمل، رغبة الحياة الشبقيّة (الإيروس)، “أنا هنا في الصالة وأنتِ نائمة منذ عشر دقائق/ فجأة يلفحني الحنين إلي تقبيل رأسك/ أدور في الصالة شمالا ويميناً أتخبط في الأثاثات/ أتجرجر على الأرض الخشبية حتى أصل إلى حافة سريرك وبكامل جسدي المجروح أقبع هناك”.. ثم:  “قبلتكِ في الشارع ليست هي قبلتك في البيت”.

الشعريّة في “منتصف الحجرات” خارجة من الجدليّة والتوتر بين رغبة الموت ورغبة الحياة؛ شعريّة قائمة على السرد الذي يجعل من الغرفة ومن البيت حدود العالم لكينونة يتجلى الموت في علاقتها بالأشياء: “كان مرعباً أن تحبّ شجرة تعرف أنها تموت يوماً بعد آخر، المياه التي كنت أرشّها عليها كانت تتشرّبها الأرض وفي صباح اليوم التالي تهزل أكثر”، وتصبغ تشبيهاتها “الخيالات ماضية في طريقها المحتوم كنسوة ذاهبات إلي المقابر يوم العيد”،وتنعشق في الرغبة إلى الآخر “((إذا ما أحببتك أكثر فسوف تنسي قدمي المشي))/ جملتكِ العبارة هذه وتَّدت الغرغرينا في رجليّ”.

“جسدكِ في الصباح ورقة نعناع خضراء، لن ألمسه، فقط أتشممه، (..) إنه ملقي علي السرير دون ألم، إنه ميت كورقة نعناع خضراء”. فاكتمال الحب يطرح العجز والتفسخ الجسدي في السعي إليه.

شكل الهيكل العظمي منزوع اللحم لحصان السباق الشهير “فار لاب” (1926-1932)

الذي اختاره أحمد اللباد للغلاف وأضاف إليه نقاطاً حمر عديدة تشير إلى مواضع مختلفة للألم، يبدو وكأنه يعبّر عن العمل على المستوى الجمالي والموضوعي؛ نزع الحمولات اللغوية والبلاغية الزائدة، الرنين والغنائية الزاعقة، نزع يصل إلى عظم العاشق وروحه المتفردة التي تكونها تفاصيل صغيرة بعيداً من ضجيج العالم، مثل: نافذة، حائط، شجرة ليمون أو زيتون، زغب فوق البطن، هدوء شعيرات دقيقة، شعر ساكن علي الأشياء وهائم في المنزل، مساحة فارغة من السرير، علامة رفسة ذراع غائرة في المرتبة، تبدل شكل الأعضاء بين الحبيبين مع مرور الوقت، اختلاف القبل بين الأماكن المختلفة، رسمة طفلة صغيرة، حلم، نتوء عظمة في الجنب، شخص عابر في الظلام، نظرة جار، ذكرى منظر رجل الأب قبيل الموت، منظر بيت أزرق، وضع الجسد في النوم وتقلباته، كتلة صغيرة وهشة من رماد السجائر في المنفضة، إلخ… عظم هو غاية الشاعر وراء اجتهاده الشعري: “أودّ أن أرى هذه العظام في رقدتها النهائية وقد تخلّصت أخيراً من شحومها وحركتها”.

المُزاح في القصائد هو السياسة، ليس بمعنى الأحداث السياسية ولا الوقائع التي تجري في “العالم الخارجي”، بل أن كلمتي “خير” و”شر” لم تُذكرا مرة واحدة. يماني هنا مستسلم للقدر، يسرد فقط ويطلق العنان لخياله كي يجعل قدره أجمل: “انظري/ ياللسعادة!/ لقد نسينا بعض الآلام/ وأنا ما عدت أذكر/ صدقيني/ ما عدت أذكر سوي مارتا الصغير…”. التأمل هو روح النصوص لا الإشتباك، لكنه مع ذلك تأمل لا يفتقر إلى الحرارة أو الزخم، يمسك الحلم ويغزله بالواقع ليخلق عالماً جمالياً خاصاً في منتصف الحجرات.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم