وأين الحياة؟

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سلمى فايد 

راقِصِينَ على راحةِ الموتِ كانوا..

وكانَت ليالٍ.. وغَيمٌ.. وكان صُراخٌ..

يسيلُ كثيفًا مِنَ الأُغنِيَات..

وأينَ الحياة؟

يقولُ صديقي.. مُشيرًا إلى صَدْرِهِ..

كنتُ أفتحُ قَلْبِي.. ليَدْخُلَ فيهِ المساءُ..

ولَسْتُ أخافُ..

 

 

فماذا تَغيَّرَ؟ يُخرِجُ من جيبِهِ دفترَ الذكرياتِ..

يُقلِّبُ بعضَ السِّنِينَ -سريعًا-

ويرسمُ في عتمةِ اللَّيْلِ صورةَ طِفلٍ..

يرى الكونَ أجملَ مِمَّا نراهُ..

لماذا أرى الآنَ في كلّ نافِذةٍ قُنْبُلةْ؟

والْحَقِيقَةَ كفًّا تمرُّ على القلبِ في كلّ حُلمٍ..

وتحنو عليهِ لكي تقتُلَه؟

صارَ قَلْبِي يخافُ..

وصارت تُصوّبُ نحوي السَّماءُ بنادِقَها..

مثلما يفعلُ الآخَرونَ..

أراهُم يسيرونَ من تحتِ جِلدي..

ويستعمرونَ فِراشي..

يُريدونني حينَ أكتبُ نصًّا عنِ الحُبِّ والأرضِ..

أن أستعيرَ قواميسَهُم والكلامَ الذي يفهمونَ..

يُريدونني حينَ أعشقُ..

أن أدخلَ الغابةَ المستحيلةَ

قبلَ السلامِ على مائِها.. والثِمارِ التي

تتدلَّى على صدرِها.. مثلما يفعلونَ..

أراهُم وأعرفُ أصواتَهُم مثلما يعرفُ الطفلُ

صوتَ العفاريتِ..

لكنني لا أراهُم كما يحلمونَ..

أَتعرفُ كيفَ يموتُ الجميعُ وراءَ النوافذِ؟

كيفَ تصيرُ البلادُ كما صار حُلْمي وحُلْمُكَ..

قبرًا لِمن يرضعونَ التُرابَ على صدرِها؟

كنتُ أنظرُ حولي..

وأفركُ عينِي لكَيْ لا أُصابَ بوهمِ الأمانِ..

وكنا نسيرُ على شارعٍ لا يُؤدِّي إلى أيِّ حُلمٍ..

وتمشي الحكايةُ مقطوعةَ الرأسِ..

-مثلي ومثلَ صديقي-

“نريدُ الحياةَ” أقولُ..

ولكنّنا لا نُجيدُ الوصولَ إليها

كما ينبغي أن يكونَ الوصولُ إليها..

نسيرُ وننظرُ نحو خُطانا.. نتابعُ أقدامَنا في الظلامِ..

كأنَّا نريدُ التأكُّدَ مِن أننا لا نزالُ..

نَعُدّ البلاطَ.. نُخمِّنُ شكلَ الذينَ يسيرونَ فوقَ الرصيفِ..

بطيئانِ نحنُ.. سريعانِ يُمكنُ..

لا شيءَ يحسبُ إيقاعَنا في الفراغِ..

خُطانا البريئةُ تقفزُ فوقَ الظلالِ.. تُحاولُ

مثلي ومثل صديقي.. خِداعَ النِّهايةِ..

واللحظةِ الغادرةْ..

قالَ: ماذا يقولونَ في أوّلِ الأمرِ

حينَ تكونُ البدايةُ وهمًا جميلًا.. وحينَ

تكونُ النِّهايةُ ليست سوى فِكرةٍ عابِرةْ؟

قلتُ: ماذا يقولُ الصبيُّ الفقيرُ..

إذا وعَدَتْهُ فتاةُ البلاطِـ.. بلُقمةِ حُبٍّ..

وشَرْبةِ نهرٍ سيبعثُ أحلامَهُ الغابِرةْ؟

خارِجَين مِنَ الظِّلِّ كي ندخُلَ الظِّلَّ كُنَا..

وكانَت حكايتُنا لا ترانا.. فُتاتُ الموائِدِ ما زال فوقَ الموائِدِ..

والحارِسُ الْمُتمكّنُ يشطبُ كلَّ صباحِ دليلَ الجريمةِ..

والميّتونَ يغوصونَ في بِركةٍ مِن ْكَوابيسَ قُربَ الْحَقِيقَةِ..

أسماؤنا لا تزالُ مُعلَّقةً مثلَ وشمٍ على حائطِ الذكرياتِ الأليمةِ..

ماذا تَغيَّرَ؟

لا شيءَ.. ما كانَ سوفَ يكونُ..

ولا شيءَ أكثرَ..

نَفْسُ الروايةِ.. نَفْسُ المؤلّفِ.. نَفْسُ الجنونِ..

يموتُ الفقيرُ.. ويحيا الأميرُ..

وكانَت بلادٌ.. فصارتْ بلادًا..

ولسنا هُناكَ.. ولسنا هُنا..

كانَ ينسى الكلامُ.. وأنسى الكلامَ..

فنُنصِتُ للغيبِ في كلّ عينٍ تخافُ وراءَ البيوتِ..

كأنّا نحاولُ أن نفهمَ الأمرَ.. لكنَّهُ كانَ أصعبَ

مِن لهجةِ الغُرباءِ إذا ما أرادوا

قِراءةَ أشعارِنا في الهزيمةِ

والحُبِّ والأرضِ والْمُعجِزاتْ..

كانَ شِعرًا شَفِيفًا.. وكانَت لنا رغبةٌ في البكاءِ..

نُدندنُ لحنًا قديمًا.. ونسكُبُ دمعتَنا في هدوءٍ..

ونهمِسُ:

ماتَ الغزالُ اليَتِيمُ..

وما زالَ صوتُ النَّحيبِ يُدوّي

مِنَ الشامِ حتى انكسارِ العِراقِ..

إلى أيِّ وهمٍ يسيرُ القطيعُ؟

إلى أيِّ حُلمٍ يطيرُ الطُغاةُ؟

وأينَ السَّماءُ وأينَ الرُعاةْ؟

هوَ ذا اللَّيْلُ يدخلُ أيَّامَنا يا صديقي ويزحَفُ..

يحملُ كلّ انكساراتِنا في يديهِ..

ويعرفُ ما يُوجِعُ القلبَ..

ما الحبُّ؟ قالَ..

فقلتُ: إذا كانَ يُعرفُ.. ما كانَ ألقى الْمُحِبُّونَ أعمارَهُم في يديهِ..

وقالوا: خُذِ العُمرَ مِنَّا.. وهَبْ للمُحبِّينَ حُزنَ الكمانِ بِوَقتِ الحنينِ..

وقلبًا يُرفرِفُ بينَ الضلوعِ.. وليلًا حنونًا يُحرّضُ رعْشاتِنا الخائِفةْ..

وإذا كانَ يُوصَفُ.. ما صارَ أُغنيَّةً لا تموتُ..

وكفًّا إلهيَّةً كاشِفةْ..

كنتُ وحدي..

وكنتُ أعُدُّ السِّنِينَ.. وأرْقُبُ عُمْرِي

يسيرُ بطيئًا.. ويَنْبُتُ شيئًا فشيئًا على وجنتَيّْ..

وكانَت تقولُ: “أُحبُّكَ أنتَ”

فيسقطُ قَلْبِي ويُغمَى علَيّْ..

وأينَ أنا الآنَ والحبُّ أينَ..

وقد صارَ قَلْبِي ضعيفًا.. ضعيفًا..

رمَتهُ السِّنُونَ.. وجفَّ الحنينُ..

فماتَتْ بهِ الوردةُ النازفةْ..

قالَ: إنّي تعِبتُ..

وإنّي أرى اللَّيْلَ يقطَعُ قَلْبِي مِنَ الجِهَتَينِ..

كما يفعلُ الآخَرونَ تمامًا.. إلى أينَ نمضي؟

إلى أينَ يُمكنُ أن يصمُدَ القلبُ يا صاحِبي؟

قالَ وهْوَ يُراقبُ دفتَرَهُ والسنينَ التي شوَّهَتها المسافةُ

بينَ الْحَقِيقَةِ والأُمنياتْ..

قلتُ: ما زالَ في القلبِ ماءٌ وشِعرٌ..

وفي اللَّيْلِ كلُّ الجِهاتِ -ككُلِّ الوجوهِ- سواءٌ..

نسيرُ إلى أن يمُوتَ المؤلِّفُ..

ثمّ تصيرُ الروايةُ محضَ افتراءٍ..

لنعرِفَ ماذا تبقَّى مِنَ الممكِناتْ..

راقِصَين على راحةِ الموتِ كُنَّا..

وكانتْ ليالٍ.. وغيمٌ.. وكانَ صُراخٌ

يسيلُ كثيفًا مِنَ الأغنيات..

وداعًا صديقي.. يقولُ

وداعًا صديقي.. أقولُ

وتبقى النِّهايةُ..

ماتَ الجميعُ..

وعاشَ الجُناةْ..

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من ديوان “ذاكرة نبي لم يُرسل” الصادر مؤخرًا عن دار روافد

 شاعرة مصرية، صدر لها:

كوابيس ما بعد الخطأ ـ عزلة الغريب

 ورواية “الرباط الأسود” 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project