عندما رآها أول مرة ترتدي فستاناً بلون الياقوت وترفع شعرها شينيون وقد أصبح لونه مثل مارلين مونرو –ذهبي بلاتينوم، هكذا تحقق من اسم درجة اللون على الإنترنت- شعر مالك بأنه لم يكن يعرفها على الإطلاق. في المرات القليلة التي تقابلا فيها قبل أن يتزوج منى، لم تبد له كفتاة تستطيع أن تغامر وتصبغ شعرها باللون الذهبي. لم تبد له كأي فتاة على الإطلاق في الواقع. لم يعرف كيف يصفها، حتى في تعريفها لنفسها كانت تكتفي بلقب آنسة، فهي لم تحدد بعد أي المهن اختارت، وأي الفنون أبدعت. كل واحد يراها من منظور يحبه، هناك من يرونها عاهرة تصطنع المثلية الجنسية لتتستر وراءها بإبعاد تهمة الشهية الجنسية الغير مقيدة. نعم هي تهمة في هذا العالم، تعامل مع الأمر يا صديقي!
وهناك من يرونها كتكوتة صغيرة، فراشة تطير نحو الشمس ببراءة وسذاجة محببتين للنفس سيؤديان إلى احتراق جناحيها وسط حفاوة شعبية بالغة.
أما عن جيمي، جيمي الذي يعرف كل شيء ولا شيء، جيمي الذي يرى في الفودكا صديقاً حميماً يرى من خلاله العالم بصورة أوضح وأوقع، جيمي يراها مدعية أفاقة لا تفقه شيئاً في الفن ولا في الموضة.
“يابني دي بت عايمة في مية البطيخ، هي بس بتنط من على حجر دي لدي وكل ما تعرف واحدة تلقطها كلمتين بالفرنساوي على جملتين من بتوع سارتر ومارتر. أنت شفتها وهي بتدخن؟ أحا، دي بتنحت أودري هيبورن.”
كل الناس يعرفون قصتها هي وإسراء، ربما أكثر من قصته هو ومنى. وقصته هو ومنى –يا نديمي- جميلة حتى أنجبت منى طفلاً يحمل اسم والدها الدكتور منصور. عندها تفتت كل الأحلام والمداعبات وأصبحت حياتهما مثل خبز فينو تم تفتيته في الشاي باللبن.
“أنا قابلت إسراء إمبارح.”
“ياراجل؟
“اتحجبت على فكرة.”
إسراء كانت فتاة حساسة أشبه بفاتن حمامة في أفلام الخمسينات الميلودرامية. حتى شعرها كان مقصوصاً في فورمة قصيرة جميلة لم تغيرها منذ عرفوها وحتى قبل الحجاب بفترة قصيرة. تعرفت عليها في حفل لفرقة من التي تطلق على فنها “أندرجراوند” ويحاول مطربها الرئيسي تقليد كيرت كوباين بشتى الطرق، خصوصاَ في صوته المحشرج ونطقه غير المفهوم للكلمات. هناك قابلتها إسراء وهي في مرحلة البانك/بوست جرانج روك، بشعر محلوق من جانب رأسها الأيمن ومصبوغ بالأزرق الفاقع على الجانب الآخر. إسراء أخبرتها بحبها للشاعرة مايا أنجيلو، وفي بيت جدة (ها) تلت عليها أبياتاً من قصيدة مايا “امرأة مذهلة”.
لا داعي للقول بأن إسراء لم تكن تعرف ماهية هويتها الجنسية عندما نامت معها على أريكة الجدين الكلاسيكية التي برز الحشو القطني من مساندها. لم تكن إسراء لتفكر وهي تنام وقد غطت عينيها بساعدها بينما (هي) تلعق الزغب الأسود المغطي لعضوها الدقيق، ما النتائج التي ستترتب على حدث كهذا.
والنتائج غالباً، نسبية يا عزيزي، فإسراء التي يشبه صوتها سنوهوايت في النسخة العربية، الآن زوجة وأم لطفلين، وهي بعيدة كل البعد عن عالم الغناء والفن والثقافة المتوحش. هربت إسراء بعد أن عرف الكل بحكايتها مع “هي”، وقيل أنها عولجت من الاكتئاب والميل للانتحار لمدة عامين، وقيل أنها سافرت للسعودية لأداء العمرة وهذا كان كاموفلاجها الجديد.
لكن الأرجح، أنها نسيت أو تناست تجربتها المثلية اللحظية كما يتناسى البشر كل نزواتهم، واختارت لنفسها طريقاً آخراً قليل الأخطار، طويل الأمد.
“على فكرة منى كمان اتجوزت.”
نظر لها مالك في غضب مكبوت. تصاعدت القهوة لحلقه كالحمم، تذكر أنه نسى تناول الشراب المضاد للحموضة، وتذكر أيضاً أنه ضرب لجيمي ميعاداً بعد ساعة في أتينيوس, وجيمي لا يعرف في الصداقة سوى السباب المبتكر والفودكا. ومالك يكره الفودكا، هو يفضل الكوزموبوليتان، وهي الفودكا مضافاً إليها عصير التوت والليمون وبشر البرتقال المحلى بالسكر. هو مشروب في نظر جيمي “ممحون”، والأكثر إحراجاً أن مالك اكتشفه من مسلسل “الجنس في المدينة” Sex and the City والذي يدمن متابعته سراً كيلا يتهمه أصدقائه بالتخنث ويصبح مثار سخرية الجميع.
“جيمي بيقول عليكي بتمثلي إنك ليزبيان!”
“جيمي أصلاً ليزبيان.”
تزوجتي يا منى! يالها من مفاجأة. أي أحمق وضعه الرب في طريقك؟ أم أنها الربة؟ تقولين دوماً أنكي ابنة إلهة قديمة كان الفراعنة يعبدونها ويقدمون لها القرابين من الطيور والحيوانات والحلي الذهبية. هل ساعدكِ علمك المحيط وحكمتك الخالدة في اقتناص أحمق آخر سوى مالك؟ ألم تفكري فيه لحظة.
“على فكرة، في اتنين قاعدين على الترابيزة اللي قدامنا هيموتوا ويعملوا سكس.”
دائماً ما تصيب نظرتها في الجنس والشهوة، لا تفشل أبداً في توقع العلاقات الناجحة والفاشلة، عندما تلقي بالزهر على لوحة الطاولة الخشبية، دوماً ما تتلاقى الستة مع الستة. أول مرة نام معها شعر بالقرف لا شعورياً، إنه ينام مع امرأة نامت مع امرأة طالما حلم بمطارحتها الغرام؛ إسراء.
فقبل منى كانت هناك إسراء. وقبل إسراء كانت هي قبل أن يعرف أنها مثلية، سحاقية، قحبة، اختر ما تشاء من الألقاب المطعمة بالإهانات. أليس غريباً أن تكون كل الكلمات المعبرة عن المثلية في اللغة العربية مهينة؟
“منى شكلها بقى عامل إزاي؟”
“منى هي منى، مش بتتغير.”
أما هي فدوماً ما تتغير. لون شعرها الذي جرب كل درجات قوس قزح. ندبة قديمة كانت على جبهتها وأزالتها هي بالليزر ثم عادت للظهور بعد فشل تركيب حلق فضي في منتصف جبهتها. معاناتها مع الوزن، تضاريسها التي تمتلئ تدريجياً لتفقد كل الدهون التي اكتسبتها دفعة واحدة. سيجارتها المنفوشة، حاجبيها غير المتناسقين –الأيمن أطول من الأيسر- والضحكة المتهكمة بجانب فمها. آه من تلك الضحكة، أحياناً ظن أنه سينسحق تحتها.
“ليه دايماً بتفتكر نفسك غبي يا مالك؟”
ليست المشكلة في وصفه بالغبي. المشكلة أنه متعب. متعب للغاية يا صديقي ويتمنى النوم على جنبه الأيمن كما يفعل العقلاء، لا على طرف السرير، مدلياً ذراعيه وساقيه لأسفل كاليويو. كل ليلة كان يتخيل وجه منى الدقيق المغطى بالنمش يبتسم له من وراء الحجب. يحاول التدقيق فيه فيجده اختفى ليحل محله وجه جدته الحاجة نصرة عند خروجها من الحمام ليلاً. كانت مصابة بسلس البول وكان يكره رائحتها المعتقة ووجهها الضاحك كلما احتضنته.
“عارف هي يمكن تكون قلبت على مين دلوقت؟”
“مين؟”
“جدتك أيام عزها، مش شعرها برضه كان أحمر؟”
أحمر ناري. شعر الحاجة نصرة الأحمر الناري. ظلت حتى آخر أيامها تحتفظ ببعض خصلات حمراء في وسط بحر شعرها الرمادي، ولم يزدها هذا إلا نفوراً.
منى صبغت شعرها بالأحمر؟ ستبدو كريهة أكيد. ترى هل ستبدو كريهة؟ ليته رآها بعد أن صبغت شعرها.
“هي لسة قافلة الفيسبوك.”
“عملت حساب جديد، بس باسم مختلف.”
“إيه الاسم؟”
“سندس…سندسة، حاجة كدة باين.”
سندس. أرجع رأسه للوراء وتذكر في حنين. كان يتمنى إنجاب فتاة لها وجه منى المغطى بالنمش. ود لو أطلقا عليها سندس. كعادته لم يفاتح منى في الموضوع. ربما مازالت تتذكره هي الأخرى، تود لو تعود إليه.
“تفتكري أنا ومنى ممكن نرجع؟”
“هو أنتو كنتو مع بعض عشان ترجعوا؟ أنتو هتعرفوا بعض من جديد أصلاً.”
على أي أساس حددت هي قواعد علاقته بمنى؟ من هي لتطلق أحكاماً جائرة؟ كل ما تعرفه عنهما ورقة توت قد تسقط وقد تبقى في مكانها حسب الظروف. ومالذي تعرفه هي عن البقاء والاستمرارية عامة. لم تتعد أطول علاقة لها عامين. وكانت معه هو.
على فراشه تلاقيا كثيراً. بكى مرة بين ذراعيها وهتف باسم منى. لم تتأفف أو تنطفئ شهوتها. استقبلته مثل الطين المبتل في واحد من الحقول الممتدة بعرض مزرعة جده والد أمه. طوال عمره كان يفضل عائلة أمه عن عائلة أبيه. كانوا يبدون طيبين ومحبين للحياة. عائلة والده بدت وكأنما أفرغت من الألوان، مثل أنابيب الجواش الفارغة. كثيراً ما أدخل يديه في جيوبه بعد قضاء العيد عند جدته نصرة وأخرجهما فارغتين، بينما اعتاد جده لأمه أن يملأ جيوبه بالحلوى والفاكهة المجففة وسكر البنات. هي أيضاً تحب سكر البنات، على عكس منى. كان يجب أن يكتشف دونية منى منذ تأففت من تناوله لسكر البنات، تماماً مثل جدته نصرة.
“تروحي معايا البيت النهاردة؟”
“بلاش عبط”
كم مرة رفضته؟ عشرون، أربعون، مائتين؟ يتذكر كل مرة وكأنها الأولى. دائماً ما يحمل رفضها على كتفيه حزيناً، متشائماً، ويسير في الطرقات مقلداً كاظم الساهر وهو يبحث في الليل عن حبيبة علمته الأحزان. لكن الساهر لم يكن أحمر الأنف من شدة البكاء، ولا كانت رائحة أنفاسه حلوة من أثر شرب الكوزموبوليتان.
“يا نهار أسود. دي منى! إيه اللي جابها هنا دي!”
التفت وراءه كالمنوم. رآها. هي. منى. نصرة. وكل النساء اللاتي أرقنه على مدار حياته. في ذلك الجزء من الثانية رآهن، أو ربما رأى الجزء ال “هي” في نفسه.
ولكنه، يا صديقي، لم يحاول النهوض واللحاق بها، بل أكمل طعامه في هدوء وأناة، مفكراً نفسه بأن يسرع في شرب الحساء، حتى لا يتأخر على ميعاده مع جيمي.