د. عفاف عبد المعطي
ليست صدفة أن تكون الرحلة بمفهومها الأشمل مجالا للنص الأدبى، وكذا مجالا للبحث العلمي حيث الكتب التى أفردت المجال للبحث للارتحال كثيرة وكذا كان للرحلة فى المجال الإبداعي والدراسات الأدبية الجانب الأكبر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر كتاب الناقد المغربى الكبير شعيب حليفى” الرحلة فى الأدب العربى”.
وقد كانت الرحلة ولا تزال مجالا لكتابة المبدعين، لأن رواية الرحلة صنف من الروايات التي تغوص في النفس البشرية، فتعتبر الرحلة في العالم الخارجي وكأنها رحلة لاستكشاف الداخل وكم من الروايات التي تناولت مفهوم الرحلة مثل كتابات السندباد حسين فوزى ورحلة بن فطومة للكبير نجيب محفوظ ؛ فضلا عن “رحلة بلاداسار “لأمين معروف عن البطل الذي يرحل للبحث عن اسم الله المائة والهيبي والكيميائي لـ باولو كويلو، وفي اعتقادي ان قصة بهاء طاهر القصيرة “أنا الملك جئت” تأتي علي قمة هذه الأعمال ففي مناجاة بطلها في نهاية القصة يقول “أنا الملك جئت ولما المرأة ذهبت، ولما تفرق كل اللذين من حولي جئت اليك إلاهي اتباهي في جمالك، أنت النور وأنا صدي النور، الآن اشكو اليك إني حزين”.
ضمن نصوص الرحلة أيضاً، رواية محمد توفيق “همس العقرب” الصادرة عن دار العين 2021 والتى وصلت الى القائمة القصيرة فى جائزة بوكر العالمية، وفيها يقوم حسين “بطل الرواية والرجل ذو الانتماء المزدوج بين موظف الإمبراطورية البريطانية وعرّاب الملك الصغير” برحلة عبر الصحراء لاستكشاف ذاته في الصحراء الغربية المصرية الليبية، فيحاول التخلص من انتمائه المزدوج بين تعليمه الأساسي “الأزهري” الذي يضم القرآن وحِكم الصوفية وأقوال ابن خلدون وتجليات بن عربي وثقافته التى استقاها من جامعة اكسفورد البريطانية ومن ثم وولائه لإنجلترا وحَلفه يمين الولاء لملك انجلترا وقيامه بكل ما طلبوه منه، حتي أن الكاتب يفرد في الفصل الأخير من الرواية فصلا بعنوان الجاسوس وكأنها طلقة كاشفة لعالم خَفى وكان ذلك العالم كله جواسيس تتجسس علي بعضها ومن حولها.
تصطدم ثوابت حسين بطل الرواية المرسوم حسيا -عبر لغة الراوى- بدقة شديدة كفارس وخيال ومُغامر يحمل انتمائين، فهو مشقوق إلي نصفين صامت يتكلم مع نفسه طوال الوقت ويستخرج مما حفظه حِكم الصوفية التي تأتي تلقائيا علي لسانه عندما يتنازعه شعور المغامر والموظف الملتزم، وكذا الصوفي المتدين والعبثي المعيش، ثم ينتهي به الحال كما يقول الراوي العليم إلي “أن تفض بكارة العذاري، أن تنتهك عرض خادمات……أن تفسد ملكا مراهقا”.
اصطدم الفارس بطل الرواية بسيدة انجليزية “روز ” رفيقة رحلته التي خرجت لاستكشاف الصحراء، والتى تظل تتابع أخباره حتى بالرغم من بعد المكان بينهما، و(“the secret of sahara : kufra ” كتاب يعتبر المصدر التاريخي للرواية وورد في ملاحظات فى نهاية الرواية مقرر أن (هذه الرواية مستواحاة من رحلة صحراوية قام بها روسيتا فوريز وأحمد حسنين عام 1920 الى واحة الكفرة).
يقوم البطل حسين أو (أحمد حسنين ولي أمر الملك فاروق) باستكشاف الصحراء والغوص في أعماق نفسه بالسير فيها واسترجاع تاريخ حياته وتردده في إقامة علاقة جسدية مع روز حتي يتم ذلك مع انقلاب مشاعرها إلي الحيادية بعد ذلك مباشرة وتبرر له بانها لم تَعده بأي شيء فالمراة علي حد تعبير الراوي قادرة علي تغيير نفسها دائما كأنها شخص جديد.
يقابل حسين الفتاة البدوية سندس عرافة واحة الكفرة والتي تستطيع التعامل مع العقارب ومعرفة اسرار الواحة والتنبؤ بالمستقبل،تحبه البدوية ولايحبها فالصراحة هي الاحترام فتقبل البدوية ذلك وتساعده في شفاء روز حين تقوم جميلة ابنة كبير القبيلة بعمل سحر لروز لأنها أقامت علاقة غير شرعية مع ياسين خطيب جميلة واعترضت الطبيعة فعم الخراب في الواحة وهجّت النوق من الواحة إيذانا بوقوع اللعنة.
تساعد سندس حسين في شفاء روز وتكتمل الرحلة ثم تساعده روز وباقي أفراد الرحلة علي الاستشفاء حين يصاب بكسر مضاعف في ساقه ويصبح ذو عاهة فيعيش بعرج خفيف ويصبح لمعني العرج دلالة قاطعة علي أنه يرقص بين منطقيتين هما الولاء للوطن والولاء للمستعمر.
يفرد الراوي مساحة كبيرة لروز ” الوردة ” بطلة الرواية الانجليزية التي توفي والديها بعد صراع مع المرض ثم يموت في الحرب العالمية الاولي أخوها التي كانت له ميول جنسية مِثلية وحبيبها فتلجأ الي الصحراء للتخلص من أدرانها فيذكر الراوي عنها ص 142 ” منذ طفولتها لم تبك. هارولد، وادوارد، وبابا، وماما، ذهبوا جميعا في غيم من الألم.. داخل كابوس مرعب لكنه منعزل عن الواقع. انصبت مشاعرها في قالب من حديد وتجمد البكاء في قلبها. قد تطلب الأمر علي ما يبدو رحلة صحراوية تحف بها المخاطر حتي تستعيد القدرة علي البكاء”.
تدافع روز عن امبراطورية آكلي لحوم البشر لذلك سارت رحلتها في الصحراء لتتخلص من هذه الأدران لأن شعورا يراودها بأن أحداث حياتها مُسيَّرة بواسطة يد خفية غرضها ان تعدها للحظة ذات مغزي خاص لحظة ستاتي حتما ( ص 152) تسير في الصحراء وتدوّن في دفترها احداثيات الصحراء ووصفه لها كمستشرق وكأنها لورانس المصري ( ورد الوصف في عدد من الصفحات منها علي سبيل المثال ص 151) كجاسوس مدرب وبخاصة ان ممول الرحلة بالنسبة لها المستر جاسكوين ضابط المخابرات الإنجليزي مقطوع اليد وذلك لأن الإمبراطورية تعد لحرب عالمية جديدة.
تقابل روز ذاتها في رحلتها وتستعيد ذكرياتها جميعا ورجالها الراحلين وتقابل ياسين البدوي الوسيم الذي عشقته وتمارس معه الحب في البحيرة فتجلب النقمة علي أهل الواحة حسبما يعتقدون فتعيد علاقتها مع حسين إلي منطقة الحياد وتعود لتتمرد علي ضابط مخابرات الإمبراطورية. على نطاق الزمن؛ تدور أحداث الرواية بين زمنين مختلفين؛ الزمن الثاني ( والأسبق ذكره في الرواية ) في حفل لملك مصر-فؤاد- في الاسكندرية عام 1938 يتم دعوة روز فيه وتلتقي بأمين الديوان الملكي ” حسين بطل الرواية ” وضابط المخابرات الانجليزي وتتداخل الملكة نازلي في الصورة كتلميح استباقي لعلاقتها المستقبلية بحسين، أما الزمن الأول الصحراء الغربية من يناير الي مارس عام 1921 حيث يفرد الراوي فصلا لكل زمن بالتوازي وحين يكون في الزمن الأحدث يذكر الراوى ذكريات ما حدث في الصحراء في الزمن الأول وتاريخ شخوص الرواية ؛ أيضاً تدور الرواية بين عامي 1921 / 1938 في ظل تحضير الإمبراطورية لحروبها العالمية. ولأن النص قائم على الرحلة فالمكان من أهم عناصره فيظهر الزمن الثاني أحد القصور الملكية بالإسكندرية حيث مظاهر الأبهة والسلطة أما مكان الزمن الأول فهو الصحراء الغربية المصرية الليبية مرورا بواحة الكفرة حتي سيوة وتمتلئ الرواية بوصف كامل لجمال الصحراء سواء ما يسرده الراوي بنفسه او ما يَرِد علي لسان الشخوص أو حتي تقارير روز لتتضح الصورة بإن الصحراء هي الجنة الثانية فلها قوانينها في الجمال والأخلاق والقيم والتقاليد الذي يُعد أي خروج عليها نذيرا باللعنة، كما تزخر الرواية بآراء ابن خلدون وابن عربي حيث النزعتين العمرانية والصوفية وكأن العمران هو عمران النفس بقيمها وصوفيتها وليست بالمبانى.
يتمثل الخطاب الروائي فى قصة القصة او ماوراء الرواية او حكاية الحكاية؛ حيث الامبراطوريات تُرسل الجواسيس وتستخدم مزدوجي الهويات ليَنخر السوس في أعمدة الدولة الوطنية لأن روز كانت ممولة ومستشرقة تعد الخرائط للإمبراطورية وحسين كان مُروضاً للملك الصغير ويفعل مثلها تماما بانتمائين احدهما للدولة المصرية والآخر للإمبراطورية. تمثل تكنيك الرواية فى المغايرة بين الزمنين أضفى حلاوة علي الانتقالات الزمكانية، كما أن الغوص في ذات الشخصيات الأربعة حسين وروز وجميلة وسندس البدويتين مع الاختلاف بينهم أوجد صراعا كحلبة الملاكمة انتهي ببروز شخوص ما ليظل المكان واللغة بطلا الرواية الأولين وتبقي كلمات ابن خلدون ” المهزوم يقلد المنتصر” (المهزوم مُولع بالمنتصر) رنانة صالحة لكل زمان ومكان.