هل تنبأ “غارسيا لوركا” بما ستؤول إليه مصائر نسائه في بغداد؟

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 541
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. إقبال محمد علي

“كان آخر ما رأيته قبل أن تختفي الطائرة بين الغيوم: بغداد من الأعالي، التفافات نهر دجلة والبساتين لكني لم ألمح أثراً لأمي التي كانت تنتظر بهلع إقلاع الطائرة”.

         خريف 1978

         جلست منكمشة على نفسي في الطابق الثاني من الحافلة شبه الخالية من الركاب المتوجهة إلى وسط المدينة، في محاولة لإرخاء جسدي المنهك ومخي المتعب، المشوش، لنسيان ما مررت به من أحداث في الساعات الأولى من النهار…… هل كانت مسرحية بيت برناردا ألبا، نوعاً من التحذير لما سيؤول إليه مصيري ومصير الممثلات الاخريات؟ وهل سأنتهي مع البعض من زميلاتي لما انتهى إليه غارسيا لوركا حين اقتادته عصابات الفلانج الفاشية من القتلة المحترفين في 19 آب 1936 لينهوا حياته برصاصاهم؟

         لم يفكر لوركا بالموت…ولم أفكر أن أموت، أيضاً.

         شبح ألبا، يطارد نساء سامي خريف 1978

         هل كانت الصدفة أم الحلم الذي راود عشرات المرات خيال سامي عبد الحميد، بإخراج هذا العمل في حقبة شبيهة  بما كان يسود  الشارع الإسباني عام 1936: اِعتقالات، تعذيب، قتل واغتصاب.

كممثلة، كنت احلم بأداء دور في أحد أعمال لوركا، وتحقق مرادي دون سؤال، على يد المخرج سامي عبدالحميد، عند أختياره مسرحية “بيت برناردا ألبا” ليسلمني، أمانة أداء دور مارتيريو…. ما أن أرتدي ثوبها حتى تتحول إقبال إلى شيطان أمرد… ولم تكن طيبتي عائقاً في إيصال عوالم الكراهية والشر والغدر التي تعتمل في دواخل شخصياتها المعقدة.

******

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 540

         أصبحنا رجالاً ونساء نعيش حالة السجن الكبير الذي فُرِض علينا بأشكال مختلفة. وأعتقد أن سامي تصرف بعبقرية عندما فكر  بالتخلي عن خشبة المسرح، وبناء قفص دائري حديدي هائل، أشبه بقفص الطيور وسط القاعة يحيطه الجمهور ووضعنا نحن الممثلات، داخله، ليتفرج الناس عن قرب، على عالم الجور الذي كانت تعيشه بنات ألبا في سجن ألبا. في الأيام الأخيرة، كان دخولي القفص، يؤجج مشاعر الخوف من أن يكون مصيري كمصير، لوركا، الذي انتهت حياته بطريقة غامضة  قبل 42 سنة.

******

         ما حدث في ذلك الخريف، كان يجب أن لا يكون مفاجأة لي أوللآخرين…. الوضع السياسي  المرتبك، ضعف قيادة الحزب الشيوعي وتخبطها وعدم قدرتها على حمايتنا أوتقديم حلول وبدائل  كانت كافية، لدفع الكثيرين منا إلى البحث عن طرق للنجاة، بمعزل عنه. إن سألتهم عما يجب أن نفعل إن امسكوا بنا في الشارع، يجيبونك:” اصرخوا  بأعلى صوت، انكم شيوعيون،كي تفضحوا ممارسات اجهزة الأمن”. هذه النصيحة الفقيرة، البائسة المثيرة للسخرية، أودت بحياة من أخذ بها من  الساذجين، سهولة جرجرتهم إلى أقبية الأمن العامة. الثقة بمن حولي أصبحت مخلخلة تماما، والضعف أوالاِنتظار غير مجدٍ. لذا كان عليّ ان أخطط للنجاة بنفسي بصمت. كان الكل يعرف بقضية عادل الشعرباف بعد ان كسر رجال الأمن ركبتيه بعصيهم، ليقتل فيما بَعد إثْرَ تصديقه نصيحة، فرسان بني خيبان.

******

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 539

         كان إلحاح الحزب بترشيح اصدقاء ومعارف جدد في الأشهر الملتبسة الأخيرة، يثير قلقي وقلق رفاق آخرين. كنا نعرف جيداً ان الأمن والمخابرات يدفعون بالمئات للتقرب منا وحضور فعالياتنا ودفع التبرعات المالية،.كنا نعرف ان البعض من قادة الحزب والقاعدة، قد باعوا أنفسهم في السر وان هناك الكثير من المعلومات تتسرب لأجهزة الأمن وكان الغريب، رؤية بعض الوجوه المعروفة ببعثيتها سابقاً، تتقدم بسرعة غريبة في المراكز الحزبية.. ويبدوان الخطة بتوجه قيادات الحزب إلى كردستان أوالدول الاشتراكية كانت مدروسة، لتركنا، “نحن القاعدة”،  مطاردين مثل الفئران، نبحث عن جحور !!.

******

         كنت إلى جانب عملي كممثلة في فرقة المسرح الفني الحديث، أعمل صباحا في مديرية تربية الكرخ كواحدة من المشرفات الفنيات في مجال المسرح الطلابي.

         مساء أحد الأيام، شعرت ببدايات رشح فتوجهت صباحاً إلى مكان عملي في منطقة الحارثية لأخذ إجازة مرضية. طلب مني (حبيب) معاون المدير بالتوجه فورا إلى مديرية الصحة المدرسية.

         أجبته أنني بإنتظار فاروق أوهان لأخذي بسيارته لأنه الآخر، ينوي الذهاب إلى هناك لتمديد إجازة زوجته المرضية، رد حبيب: اذهبي الان. لا تنتظري، خذي سيارة اجرة وسأعطيك نصف دينار لدفعها للسائق ومد يده إلى جيبه..قاطعته مازحة: كلا، سأنتظر فاروق وشكراً للمبادرة الكريمة السخية.

         هنا استدار حبيب  ضاحكاً،موجهاً الحديث لزميلتي مَي:”حلمت أمس بهجوم مجموعة من الرجال على إقبال في الشارع، أوسعوها ضرباً بعصيهم على أرجلها. ولإكمال المشهد، بدأت اسير كالعرجاء ضاحكة: هكذا؟ أجاب بحزن:نعم، هكذا بالضبط”. كنت أعتقد، أنها كانت واحدة من مزحات حبيب المحببة التي تعودت عليها والتي غالباً ما كنتُ ادفعه إليها دفعا.

******

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 538

         البحث عن المفتاح !

          المفتاح، سلمته الاحزاب المتخاذلة الخائنة، دون أن نعرف نحن البسطاء المغفلين، الغول الكبير الذي يحكُم ويَتَحكَم بحرياتنا…. أتذكر كيف كانت ترسلني المنظمة الحزبية في الليالي الباردة المدلهمة السواد إلى بيوت الرفيقات اللواتي تم اعتقالهن وجرجرتهن إلى أقبية الأمن العامة.. كانت الابواب تنفرج بحذرٍ شديد، أرى من خلال الفتحة الضيقة، وجه أب حزين محبط، كسير أوأم ملتاعة، يطالباني أن لا أحاول طرق بابهم ثانيةً.. أحياناً  تفتح لي الباب الرفيقة نفسها، بوجه شاحب، مرعوب غير مقروء، حتى الدمعة تخاف أن تنزل من عينيها، تطلب مني أن لا أعود ثانية.

         هل سيستطيع جسدي النحيف الصغير، مقاومة ذوي الشوارب السود والشعر المدهون الملمع. من اين جاء هذه المتجبر بهؤلاء القتلة، الشرهين في اللعب بالاجساد الصغيرة الفتية التي تقع بين ايديهم، بالدم النقي الذي كان يجري بين أفخاذهن المغتصبة، بدفنهن أحياء في اقبية الامن اوفي حفر جماعية أوتسليمهن لأهاليهن المكسوري الجناح محاولين تضميد جراح، ستبقى مطبوعة وإلى الابد في اذهان صغيراتهن؟ لِم التساؤل يا إقبال وانتِ أدرى بالجواب !

         كنت أعود منهكة، خائرة القوى في منتصف الليل إلى بيوت الاصدقاء الذين كانوا شجعان، كرماء في إيوائي ببيوتهم.. بيتي لم يعد بيتي… بيوتنا مراقبة، ووجوهنا باتت معروفة لرجال الأمن والمخابرات حيث يتخفى البعض منهم  بصورة باعة، بدشاديشهم المقلمة وكروشهم المتدلية من الحزام الملتف وسط خصورهم، وجوه فيها الكثير من قساوة البداوة والأستهتار، شعورهم شعثة، أنوف كبيرة مفلطحة، يفترشون أرصفة شوارع بغداد المعروفة ببضائعهم المسروقة، المستوردة التي تزودهم بها بالتأكيد ( الأمن العامة).. كان عليّ الإستماع لتعليقاتهم  الجارحة المخدشة للحياء وانا انعطف كل يوم  إلى الشارع  الجانبي المؤدي إلى بيتي بصمت. كانوا ينتظرون ان تخرج من فمي كلمة ادافع بها عن نفسي كي يجرجروني إلى أقبية الامن. كانوا يعرفون كل شيء عني… يعرفون جيداً انني ممثلة، والممثلة بنظرهم ( عاهر) لا تستحق الحياة قدر ما تستحق الأعتداء على عرضها ورمي جثتها في المزبلة. كل من يعرفني  ويعرف تاريخ عائلتي في منطقة الكرادة داخل، المزدحمة بالحركة والمعروفة بأسواقها الشعبية القديمة، لم يكن على استعداد للدفاع عني أوحمايتي لأنهم يدركون جيداً مَنْ هؤلاء، فباعة المحلة عادة، يكونون من اهالي المنطقة نفسها..وهكذا استمروا في بهذلتي وإهانتي امام المارة وجيراني العابرين… مما اضطرني في النهاية، إلى البحث عن اصدقاء مستعدين لإيوائي مؤقتا.

         في داخل القفص، كنا نسمع تعليقات تخدش الحياء، ذكرتني بذاءتها، بباعة الأرصفة…. كانت محاولات استفزاية من رجال الآمن…قطعوا الكهرباء عن المسرح فأستعضنا بالشموع….

******

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 537

         خرج المدير من غرفته، طلب منا بلطف الذهاب إلى غرف عملنا وتبليغ من فيها من الموظفين بأن هناك اجتماعاً طارئاً وعليهم عدم مغادرة الدائرة لأي سبب كان، عندها، نظر إليّ حبيب بحزن وسار متوجهاً إلى غرفة المدير. مضت فترة ليست بالقصيرة حين طلب مني احد المستخدمين التوجه إلى غرفة المدير…….

         كان إلى جانب الكادر الأداري، مجموعة من الرجال لا يقل عددهم عن الخمسة على ما اذكر، يجلسون حول طاولة وسط الغرفة.. توجهت للجلوس على مقعد قريب، إلا انهم طلبوا مني بطريقة دمثة  مشاركتهم الجلوس على الكرسي الخالي… لم يكونوا بحاجة لتقديم أنفسهم عرفتهم على التو، مِنْ بدلاتهم الخضراء القاتمة اللماعة، شواربهم السوداء الكثة المقلمة بعناية حول فمهم وشعرهم  المجعد الممسد المدهون بعناية والخاتم الذهبي في الخنصر.. كنت قد سمعت بصولاتهم وجولاتهم في المؤسسات الاخرى ويبدوان اليوم المبارك قد حَل لتجلس الممثلة، وجهاً لوجه مع جلاديها.كنت أنظر إلى وجوههم بتساؤل وأبادلهم الابتسام… أحسست بقشعريرة تغطي جسدي.. وجوه الثعالب هذه أعرفها، متشابهة لكأنها قوالب بشرية منسوخة..كنت أراها عبر شاشة التلفزيون تحيط بالدكتاتور لحمايته وحماية قادته الاخرين. تستدل من لهجة البعض منهم ان تحدثوا، لَكنَة البادية…….

         بدأت المساومات بما سينتظرني من مستقبل (باهر) ان وقّعت إستمارة الانتماء لحزب البعث… سألتهم في النهاية، إن كنت ملزمة بملء وتوقيع الاستمارة في ذلك اليوم! وحبذا لومنحوني مهلة للتفكير بهذا الامر. سألوني ان كنت أنتمي لجهة حزبية اخرى؟ أجبت، بلا.. عند ذاك قال لي احدهم بابتسامة خبيثة: امرك سيخرج من بين ايدينا ان لم توقعي اليوم. إذاً، هذا ما كان يريد ان يخبرني به (حبيب) بطريقة غير مباشرة، صبيحة ذلك اليوم، ويبدوانني كنت اجهل لغة الالغاز… غادرت غرفة المدير،أغلقت الباب خلفي.

         توقفت لثوانٍ في الشرفة الطويلة المؤدية للسلم في محاولة  لإستيعاب ما حدث معي للتو، وما خلفه من تشوش وارتباك…صوت الضحكات العالية من الحجرة الكبيرة المجاورة اعاد لي صوابي، أمسكت مقبض الباب لأدخل ولكني سرعان ما غيرت رأيي وهرولت مسرعة، إلى السلم المؤدي إلى باحة البناية ومنه إلى الشارع، لا ادري كيف لم اتدحرج من السلم الذي كنت اثب درجاته وثباً، لربما  صُغر حجمي ووزني الذي لم يكن يزيد عن الاربعين كيلوغرام آنذاك ساعداني على ذلك.

         حدث هذا على ما أعتقد في بداية  شهر تشرين الثاني من سنة 1978،كان الجو يميل نوعاً ما إلى البرودة.. نفحات الهواء الباردة الرطبة انعشتني قليلاً..سرت إلى الدكان الصغير القريب، اشتريت علبة سجائر بغداد وقنينة كوكاكولا. كان مكان عملي في حي القادسية، الذي كان سكنته، خليطاً من موسري الحال والطبقة الوسطى..جلست على دكة منزوية، أشعلت سيجارتي وبدأت التفكير بما علي ان اعمل بشأن وضعي الجديد…فما مررت به قبل دقائق كان نذيراً لي.

         اِختفت حقيبتي اليدوية في أحد الأيام، من غرفة تغيير الملابس، بحتثت عنها في كل مكان. سألت زميلاتي.. بعدها صرخت بأعلى صوت بأنني لن استمر في تمثيل الفصل الثاني من المسرحية ما لم يعيدوا لي حقيبتي… اصبت بالذهول وانا أرى، خروج زميل لي في المسرحية، يعمل معي في نفس اللجنة الحزبية، يخرج من قبوالمسرح يتبعه نبيل كوني ليسلمني حقيبتي ويقول لي مبتسماً:كنا نمزح معك لا غير. كلا لم يكن يمزح،كان يعرف ان المحضر الحزبي في داخل الحقيبة لأنه كان معي في اجتماع ذلك اليوم… إذاً في لجنتنا جاسوس يترقب موتي…. عندها سكتْ، لم أحاسبه ولم الفت نظر لجنتي الحزبية  لهذه الحادثة فيبدوانها مخترقة أساسا ولا علم لي ان كان هناك عملاء آخرون فيها. في تلك الليلة، بدأت أخطط لهروبي بصمت.

******

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 536

         ما عانيته من رعب مرت به زميلات أخريات…. عند زيارتي لبيتي في أحد الأيام، وجدت الممثلة  الكبيرة زينب تنتظرني عند الباب، دخلنا البيت أخبرتني بالمضايقات التي تتعرض لها من قبل رجال الأمن الذين كانوا يراقبون بيتها أيضاً وسألتني إن كان بأمكانها البقاء معي.. بكيت في تلك اللحظة، فبيت زينب الكريمة كان مفتوحاً للصديق والغريب، أخبرتها أنني تركت بيتي قبل فترة خوفا من الأعتداء عليّ بعد سفر زوجي وما صدفة وجودي في هذا اليوم إلا لأخذ بعض الملابس والحاجيات..

         في الشهرين اللذين سبقا سفري أنجزت ما لم يستطيع أحد انجازه في أشهر، بسبب الرعب والخوف من الوقوع بيد رجال الامن. كنت أركض بسرعة حصان السباق هنا وهناك لاِستكمال معاملات سفري  بمساعدة أصدقاء عسكريين مقربين لأهلي. القانون لا يسمح للموظف الحكومي مغادرة العراق دون إجازة سفر مُصدقة من مدير العمل التي بدونها أيضاً، لا يمكنك الحصول على جواز سفر اوتحويل نقود أوالحصول على فيزة من أية سفارة اجنبية ولولا مساعدة زميلي (حبيب)  الشيوعي السابق لأصبحت شهيدة في غياهب النسيان، يتلذذ خونة الحزب الساديون في الاِحتفاء بذكراها ضمن قائمة الشهداء….

******

         3/01/1979

          لم أذهب للعمل كنت في بيت أختي. توجهت بعد الظهر إلى شارع السعدون، دخلت سينما النصر لمشاهدة فيلم يخفّف قلقي. كانت الساعة قرابة السادسة إلا ربعاً بعد الظهر عندما غادرت. تلفت يميناً ويساراً بعد خروجي إلى الشارع ثم توقفت في محاولة لتهدئة نفسي لما كان يعتريها من خوف وتوجس. لم يكن الجوشديد البرودة كما تخيلت، كانت هناك ريح باردة خفيفة، السماء صافية زرقاء إلا من بعض الغيوم المتناثرة هنا وهناك. رصيف الشارع، يعج  بالداخلين والخارجين من السينما. انعطفت إلى الشارع المؤدي للمسرح.. لم أكن وحدي من اِختار دور السينما ملجأً آمناً.. من الضوء المنبعث من الشاشة كنت أرى الكثير من الوجوه التي فضّلت ظلمة السينما ومشاهدة فيلم سخيف بدلاً من التسكع في الشوارع اوالمقاهي اوالعودة إلى بيوتهم  كي لا يلقي رجال الامن القبض عليهم. كنا نرسل ايماءة أوأبتسامة لبعضنا البعض، إن التقت أعيننا. باتت دور السينما مكاناً  لقتل الوقت رغم انها كانت باهظة الثمن للبعض. نظرت إلى ساعتي وركضت بقية المسافة. كان التقليد ان نكون في الخامسة مساءً في غرفة اِستراحة الممثلين وها أنا أكسره في الأيام الأخيرة المرة بعد المرة بسبب الوضع الأمني المرعب. دخلت الممر الضيق الطويل الجانبي الذي يؤدي إلى خلفية المسرح الفقيرة. نظر مدير المسرح إليّ شزراً وصاح: هل تعرفين كم الساعة الآن؟ ألم تتمكني من الاتصال تلفونياً لتبلغينا؟ لم أجبه، خفضت راسي وبدأت الدموع تبلل وجهي. أخرجت منديلاً من حقيبتي لأمسح شعور الذنب الذي كان يعتريني.. سمعت رنة صوته المتوسلة هذه المرة، تترجاني تغيير ملابسي استعدادً للعرض…. كان هذا آخر يوم ٍلي مع عائلتي الكبيرة..غيّرت ملابسي استعداداً للعرض.

       كنتُ أولى الهاربات

         لم يكن أحد على علم بمخطط هروبي إلا صديقتي الفنانة المبدعة المعتزلة ( مي شوقي) التي  لم تنبس بحرف بشأن ما تعرف، رغم مرور 41 عاما على الحادث. في الساعة السادسة من صباح يوم 03/01/1979، كانت الطائرة تقلني إلى مطار روما.

******

         زرت العراق بعد غياب 34 سنة والتقيت بصديقة عزيزة، كانت تعمل معي في القسم…تحدثنا عن عشرات الأشياء وأخيراً واتتني الجرأة لسؤالها عن مَنْ وقّع في ذلك اليوم، كانت القائمة تضم بعض الرفاق الذين تبؤوا بعد (هروبهم المصطنع) مراكز متقدمة في منظمات الحزب خارج العراق، بينهم من غنّى ولحن، أغاني الحزب التي كنّا نحن البلهاء نرددها بثورية…العجب أن امثال هؤلاء، كانوا سبب تقديم استقالتي من الحزب عام 1984 في موسكو.

****

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 542

         على الرغم من الأجواء السياسية المرعبة المحيطة به، كان غارسيا لوركا يبرمج لإنتاج هذا العمل الأخير من ثلاثيته في خريف، 1963التي استوحى شخصياتها من عائلة تعيش في قرية( اسكويروزا)، حيث تسكن ” فراسكيتا ألبا” مع بناتها الخمس وابنها  الوحيد باكو، في البيت المقابل للكنيسة والمجاور لبيت خاله.

         مسرحية بيت برناردا ألبا، سيا/إجتماعية، تعكس العلاقة بين سلطة فرانكوالفاشية التي استمدت قوتها وجبروتها من جبروت المؤسسة الدينية لإحكام السيطرة على عقول الناس وعاداتهم. برناردا، الأم المتحكمة، المتجبرة كانت خير ممثل لتعاليم الكنيسة المجحفة وأعرافها الإجتماعية المتوارثة غير المكتوبة. أرغمت بناتها الخمس على لبس السواد وعدم مغادرتهن عتبة البيت لثمان سنوات حداداً على والدهن الراحل…. كان مجرد استرقاق النظر من خلال خشب الشبايبك المسمرة، جريمة، تأخذ العصا طريقها على جسد كل من تتمرد على سجن البيت الأبدي الذي كانت هي نفسها، أسيرته.. جردت بناتها  من آدميتهن وقتلت كل رغبة عندهن في الحياة والحب والجنس.

         كان لوركا” مِثْلِيّ”، عانى من النظرة الاجتماعية المتدنية لِمنْ كانوا بوضعه..رجل بجسد أمراة. دفاعه عن المرأة، ومعاناتها عكس معاناته الداخلية وثورته على القيم الاجتماعية الموروثة السائدة.

____________

         ضم طاقم العمل الأساسي كلاً من:”زينب، ناهدة الرماح، فوزية عارف، ميّ شوقي، إقبال محمد علي، إقبال نعيم، أيسر شوقي، أنوار أحمد، سميرة الورد”.

         “ومن الجدير بالذكر أن عدداً من الممثلات في تلك المسرحية اِضطررن لترك العمل في الأيام الأخيرة للعروض والأختفاء عن الأنظار خوفا من تعرضهن لملاحقة السلطة التي شنت بوقتها حملة ضد الذين يحملون افكاراُ يسارية  وبالذات أولئك الذين ينتمون إلى الحزب الشيوعي العراقي أويتعاطفون معه. ولم يُجدِ نفعاً اِستبدال البعض منهن بأخريات، لذلك اضطرت الفرقة لإيقاف العرض وهوفي أوج نجاحه”. سامي عبدالحميد” المسرح العراقي في مائة عام”.ص216

         “كانت فترة رهيبة ومظلمة جدا، فقد قطع التيار الكهربائي عن مسرح بغداد أثناء عرض مسرحية “بيت برناردا ألبا” فاضطررنا إلى إشعال الشموع والفوانيس والاستعانة بممثلات أخريات من خارج الفرقة لإكمال العرض حيث اضطرت ممثلات المسرحية إلى ترك العراق.. ورغم ذلك كان الجمهور يصفق بحرارة في نهاية كل عرض، إلى أن منعت المسرحية نهائيا ” ثم منعت الفنانة زينب من دخول الإذاعة والتلفزيون ومنعت حتى كتاباتها فاضطرت لمغادرة العراق عام 1979 “. الفنان المسرحي لطيف صالح

         “قدم (سامي عبدالحميد)، رائعة الشاعر الأسباني غارسيا لوركا(بيت برناردا ألبا برؤية خاصة منفردة إذ افترض وقوع الأحداث داخل قفص أوسجن كبير  وضعه وسط الصالة يحيط به المتفرجون بدلاً من باحة بيت أندلسي. واشتركت (سلمى العلاق) مع المخرج في تصميم ذلك القفص”. سامي عبدالحميد” المسرح العراقي في مائة عام” ص.216

………………………………………

**الصورة الرئيسية تجمع: سيدتا المسرح العراقي الراحلتان (زينب، ناهدة الرماح بدوري،الأم والخادمة). د.إقبال محمدعلي (مارتيريو). السيدة الفنانة فوزية عارف بدور، أنجوستياس.الفنانة إقبال نعيم بدور، أديلا، خريف 1978 في مسرحية بيت برناردا ألبا للكاتب الأسباني: غارسيا لوركا… أخراج الكاتب/الباحث…الممثل /المخرج الراحل:د. سامي عبدالحميد

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم