هل تأخرنا في ملاحقة الحداثة الغربية؟

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 426
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

ينتمي كتاب ” نقد الحداثة..قراءات استعادية في الخطاب النقدي وتنويعاته المعاصرة” للناقد العراقي حاتم الصكر، والصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، إلى ما يُعرف اصطلاحًا بـ “نقد النقد” إذ يقوم، وفق ما يقوله الكاتب في مقدمته، على تتبع المدونات النقدية التي روجتْ للحداثة، وبشرت بها أو قدمتها من زوايا متباعدة.هذا التباعد يراه الكاتب عاكسًا للبلبلة الاصطلاحية في النقد العربي، ومخلخلًا للمفاهيم والأسس النظرية، حيث تُقدم الحداثة بكونها ثورة شاملة على المكرس والمستقر في التراث وفي المحاولات التجديدية الأولى التي لم يكن لها أفق متسع.ويجري الحديث دومًا، يقول الصكر، عن تأخرنا في ملاحقة الحداثة الغربية، غير أن الفارق الزمني لم يسلب التحديث النقدي العربي أهميته، إذ يتشكل عبر رؤية للحياة والثقافة والإبداع، تتأسس على تجاوز التجديد الذي وسم مرحلة مبكرة من المنهجيات النقدية العربية.ما يمتاز به ” نقد الحداثة ” أنه يدعو إلى عدم التوقف عند محاولات الريادة، وأنه يفتح الطريق أمام دراسات أخرى تتعلق بالموضوع نفسه، وينتصر للنقاد العرب الذين يعتبرهم البعض مجرد تابعين لما يحدث في الفضاء النقدي العالمي، معضدًا فكرة نقد النقد، رافضًا التسليم بكل ما تم التوصل إليه في ما مضى، مسلطًا الضوء على عدد من الكتب المهمة في تاريخ الحداثة.                                       

الريادة النقدية

في ” نقد الحداثة ” يقوم الصكر بتقديم قراءات استعادية، أو قراءات الذكرى، كما يرغب تسميتها أو وصفها، ويدافع عن هذه المقاربات التي تسوقها الذاكرة وتختبرها القراءات الاستعادية، ومقامات التلقي وتبدلات الفن الشعري كنوع من جهة، وتبدلات القراءة والتلقي من جهة أخرى.هنا يحاول المؤلف أن يُبسّط رؤيته لمغزى القراءة الاستعادية التي شُغل بها لثلاثة أعوام مضت.هنا يجد القاريء دراسات تتناول بواكير التجديد النقدي مقتصرة على الشعر، وهي تبدأ من مطلع القرن العشرين وربعه الأول تحديدًا، ممثلًا في جهود روفائيل بطي في العراق، ودعوات مدرسة الديوان، ونقد المهجر ممثلًا في غربال ميخائيل نعيمة، والاصطدام بالموروث النظري من الشعر كما يقدمه كتاب الشابي ” الخيال عند العرب ” ومراجعة التراث الشعري بمشاكسة منهجية وتاريخية يمثلها كتاب طه حسين ” في الشعر الجاهلي ” ويمتد لما بعد ذلك.هنا يتضح للمؤلف أن كثيرًا من تفاصيل حياة النصوص قد صنعتها القراءات السياقية وردود الأفعال والأصداء المتجاوبة مع نداءات النصوص وبرامجها ونيّاتها.                                                  

في حديثه عن روفائيل بطي يرى الكاتب أن الباحثين يغفلون الريادة النقدية العربية الموطئة للتجديد والتحديث، مكتفين بتتبع تطور الشعر ذاته، وفي إغفال الريادة النقدية انتقاصًا متعمدًا من محاولات الرواد.الصكر حين يتعرض لمدرسة الديوان يقول إن كتاب العقاد والمازني ” الديوان في الأدب والنقد ” لم يُثر ما أثاره كتاب طه حسين ” في الشعر الجاهلي ” رغم سبقهما له، لأن طه حسين كان يقاضي العقل والفكر والطريقة المنهجية عامة، فيما تبدو أطروحة الديوان مقاضاة ليقين خاص وكأنه مُساءلة لشوقي وشاعريته وشهرته.هنا كذلك ينقل الصكر عن ميخائيل نعيمة قوله في كتابه الغربال إن مهمة الناقد الغربلة.لكنها ليست غربلة الناس، بل ما يُدوّنه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول.غربلة الآثار الأدبية، لا أصحابها.مضيفًا أن صدور كتاب الغربال لنعيمة كان مستكملًا للمهمة النهضوية التي اضطلع بها التنويريون في مجالات شتى، وكان دور نعيمة فيها هو تثوير علبة النقد الأدبي، وتغيير مفاهيمه ومعالجاته بما يناسب بوادر وظواهر تلك النهضة.

كتب مثيرة

وحين يأتي الحديث عن كتاب طه حسين يقول الكاتب حين حظي كتاب طه حسين ” في الشعر الجاهلي ” بالمرتبة الأولى في استفتاء موسع أجرته الصفحة الثقافية في جريدة عربية عام 2000 حول الكتب المثيرة في الألفية الثانية والقرن العشرين، لم يكن ذلك مفاجئًا بالاحتكام لخطورة أطروحة طه حسين واحتكاكه بواحد من ثوابت الثقافة العربية والنظريات الشعرية السائدة.مشيرًا إلى أن الجديد في مشروع طه حسين كامن في الطريقة التي اقترحها لدراسة الشعر الجاهلي والبحث فيه، وهذا يفسر رد الفعل الذي قوبل به الكتاب والمحاكمة التي جرت للمؤلف وما جرى من تنقيح له بعد صدوره لاحقًا بعنوان جديد هو ” في الأدب الجاهلي “.            الصكر يرى في ” نقد الحداثة ” أن ريادة نازك الملائكة للتنظير النقدي للشعر الحر ليست محل خلاف، فكتابها ” قضايا الشعر المعاصر ” الذي صدر عام 1962، تعود كتابة فصوله ونشرها في الصحافة إلى عقد الخمسينيات، وهو أول كتاب نظري نقدي يضع قواعد ومبررات لظهور حركة الشعر الحر، ويبحث في الأسباب الفنية والاجتماعية وراءها، ويناقش أزمة القصيدة الحرة ومزالقها ومزاياها الموسيقية والموضوعية ومشكلات تلقيها.ومتقصيًا الجهد النقدي الشعري للراحل جبرا إبراهيم جبرا يجد أن ثمة ” رؤية ” – تسبق المنهج وتكسبه المرونة – يصح أن نضعها بديلًا للمنهج المحدد والمطلوب أحيانًا وكأنه عيّنة دم للناقد، غير أن رؤية جبرا لها من الأبعاد ما يؤهلها لتحل محل المنهج المفهرس والمصنف بضيق ومحددوية.ذاكرًا أن جبرا كان منحازًا إلى نظرية ” الفن للفن ” معتقدًا أن الفن تعبير عن شخصية الفرد الفنان نفسه.وعن رؤية الصكر للشعر يقول إنه يبتعد عن الواقع بحرفياته ووقائعه مفسحًا للخيال والكشف والحدس، ليصنع ” الرؤيا ” التي تضع الشاعر في مقدمة أبناء عصره إحساسًا ومعاناة.هنا أيضًا يناقش الصكر ويكتب عن تمثيلات الآخر في كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، وعن صراع الاتباع والإبداع في كتاب أدونيس الثابت والمتحول.

حجب النص

ومتحدثًا عما يفعله كمال أبو ديب، يقول الكاتب إن الهجوم على الحداثة في الخطاب التراجعي السائد هذه الأيام يتجه إلى النقد أيضًا بدوافع مختلفة دون أن يرى أصحاب ذلك الخطاب المنجز الذي أفرزه جهد النقاد العرب، سواء على مستوى المنهج وتحديثه أو ترسيخ الأنواع الشعرية الطليعية، وتمهيد أفق التقبّل والتلقي لمقترحات الأنواع الشعرية.الصكر الذي يسأل هل يضيء النقد الحديث النصوص أم يُضيعها؟ يتحدث عن تجريم الحداثة عبر كتاب عبد العزيز حمودة ” المرايا المحدبة ” والذي يعتبره مستندًا جديدًا يُعضد مفهوم الحداثة في نسختها العربية.مضيفًا أنه في طوفان التهم يتجلى الهدف الذي هو مشروع الحداثة ذاتها والتشكيك بجدواها وبجدية معتنقيها في الجانب النقدي، ولكي لا تبدو تلك الحرب موجهة ضد الحداثة، يتغلف الخطاب بمعاصرة ظاهرية تتوسل بالمعرفة والفلسفة تحديدًا لعرض أفكار النقاد والمفكرين الغربيين الذين اقترن فكرهم ونتاجهم بالحداثة، ولديهم ما يبرر ثورتهم المنهجية، بينما يبخسهم المؤلف جهودهم التي تتلخص عنده في ما يسميه حجب النص.ومراجعًا ومعلقًا على مقولة زمن الرواية التي أطلقها جابر عصفور يرى المؤلف أن لعصفور ولكتابه فضيلة تحريك الراكد من الثوابت ومعاينتها بمناظير جديدة، أسهم في ترسيخها منهجيًّا وتطبيقها علميًّا بسعة وتحول نادرين رغم اختلاف المؤلف كليًّا حول لب أطروحة عصفور.نهاية..قام الصكر في ” نقد الحداثة ” بنقد النقد كما ذكر ذلك في تقديمه لكتابه هذا، مراجعًا ومعلقًا ومبديًا رأيه ورؤيته فيما يتعلق بموضوع الحداثة وما يرتبط به أدبيًا وإبداعيًّا، متمردًا على الغنائيات المنفعلة والتناغمات، أو التباعد والتنابذ في سياق محبة أو كره النصوص المنتزعة من سياقاتها.

مقالات من نفس القسم