هكذا فكر حجازي في السمكة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبير عبد العزيز

لم يشأ فنان الكاريكاتير حجازى أن يرحل عن عالمنا إلا بعد أن يرى الثورة التى بَشَّر بها فى رسوماته على مدى السنوات الماضية تتحقق أمام عينيه.. أحمد إبراهيم حجازى المولود عام 1936 رحل عنا فى 21 أكتوبر 2011، وقد مثَّل النموذج الأمثل للفنان الحقيقى، حيث ترك مفاتيح شقته المستأجَرة بالمنيل للمالك وعاد إلى طنطا يرسم للأطفال فى صمت باعتبار أنهم الجيل القادم الذى سيُحدث التغيير.

 المخاطرة الكبيرة هى الاقتراب من عمل فنان يبدو بسيطاً وسلساً لكنك فور أن تبلغه تجده بهذا العمق الذي يحمل خصوصية وتفرداً يجعله مركباً وصعباً، وعليك أن تفرد هذا الجمال للتحليل والقراءة. حجازي الذي لا ينتهك أبداً براءة موهبته وقوته الفنية.

كان لابد من الاقتراب من قانونه في العمل، أشعر به يكشف لي سراً كلما نظرتُ إلى عمل من أعماله فليس تصفحاً ولا مشاهدة ولكن أعتبره مكاشفة سر فنان عظيم مثل حجازي. كم هى شيقة تلك المحاولات التي نقوم بها مع الفن لنسخرها لصالح العمل المكتمل. اننا مع رسوم حجازي نستمد الكثير من العمق والقوة والسعادة، الوحيد الذي بإمكانه أن يفعل مثلها، فهى في حركة مستمرة تخترق حدود الورقة وبأبسط الأشكال وأكثرها تواضعاً فكم تحمل تلك الرسوم مشاعر بداخلها. ثم كيف يرسم حجازي عالماً صغيراً لكن باتساع عجيب، كأنه يصنع من المربع محيطاً، هنا تأتي عظمة فكرة السمكة التي تشغلنا في دوائر بسيطة وتبهرنا وهي تسبح  في اتساع لا تعلمه،إنها مشغولة فقط باللعب والسباحة والجمال. وأمطار حجازي لا ترغب في التوقف وكأن المياه تحيط به، فهو السمكة والعالم المحيط بها في آنٍ واحد. حجازي كان ينحاز للسمكة في أغلب رسومه للأطفال كأنه يحتفظ بها في مكانٍ ما بداخله وعندما يرسم يأخذ هذا العشق معه ويجلب في رسوماته الكثير منه. المعروف أنه في حالات الصيد لا تكتفي بسمكة واحدة لكن العديد والعديد وهنا تكمن المتعة حتى تمتليء الشباك والسلال هكذا كانت الأفكار بالنسبه له، لم يكتفِ برسم السمكة مرة ولا مرتين بل العديد والعديد وكأنه يصطاد من خلالها الأفكار. كانت السمكة صنارته وطُعمه.

حجازي الذي عندما نتتبع سيرته ونعلم عدم احتفاظه بأعماله فهو لا يحتفظ بها. هل رأيتَ صياداً يحتفظ بأسماكه إن المياه فقط هي من تسكنه. حجازي يعشق كل ما لايمكن الاحتفاظ به، فهو الفن في جوهره. كل عمل ينتهي بمجرد الانتهاء منه لا يشغله أبداً بعد ذلك وهكذا هى طازجة الأسماك، فالسمكة لا تصاد مرتين. فهو ليس شديد الالتصاق بعمله المنتهي. تجد أيضاً التكرار عند حجازي جمال واكتشاف.

أ

نتَ تدور في دائرته ربما يدغدغك هذا فتضحك، تدور آلاف المرات ولا تشعر بتعب. دائرة تشبه الدوائر الكثيرة في أعماله، فهو يحب الوشوش الدائرية ربما لأن الابتسامة دائرية، وحركة السمكة دائرية، قشورها وعيونها دائرية. كأن حجازي ينظر للعالم من خلال ثقب دائري فيرى كل شيء دائرياً. إنه يترك العبء الذي يشغل الفنان عندما يرسم للأطفال لينشغل بالعلاقة وخفتها وجمالها. ربما عرف الحقيقة داخل رسوماته بأن البهجة هي سمكة لا تمل الوجود والحركة وكلاهما مؤنث.

هو القائل: “الكاريكاتير عموماً يستوعبه الكبار والصغار..وهو ليس بالضرورة عنصر  إضحاك فقد يكون عنصر ألم أو صدمة.. وهو بمثابة البرقية التي تنفذ إلى  الأعماق”.

لذلك كانت كل سمكة يرسمها حجازي طازجة جداً حتى لو كانت غير ملونة، طزاجتها تعود لطزاجة الأفكار التي تطرحها وهنا تكمن عظمة حجازي.

عندما ننظر لعلاقة السمكة بالزمن في رسومه نجدها رمزا للمستقبل فهى الحلم و الأمنية، عندما تُخرِج الصنارة عروس البحر، وعندما يصطاد الديك الدجاجة بصنارته، عندما يقارن بين الماضي والحاضر في جيلين في رسمة الأب والابن عندما يتشاركا في الصيد، فيصيد الأب بصنارته سمكة واحدة لكن الابن وهو رمز للمستقبل والجيل الجديد يبتكر صنارة متعددة الخطافات فيفوز بالعديد من الأحلام.

يهتم باللحظة الحاضرة عندما يطرح برسومه أفكار حول التسلية وهذا يظهر جلياً في رسمة المهرج الذي يصطاد وهو يجلس على مقدمة سيارة وتلك السمكة الكبيرة جداً التي بالسلة فوق السيارة توضح زمن الصيد بأنه قصير، فلم يتم سوى اصطياد تلك السمكة الكبيرة والأخرى التي تخرج من الماء. وهناك ما تحمل في طياتها أشكال الزمن المختلفة من ماضٍ وحاضر ومستقبل في مكان واحد مثل رسمة كومة السمك المأكول والسمكة التي تؤكل في نفس اللحظة. وهناك رسوم تساعد في الشعور بامتداد الزمن مثل الرسمة التي يصاد فيها السمك ثم يتم إطعام أبو قردان  ووجود أسماك أخرى بفمه تؤكد امتداد الزمن وغيرها.

حجازي الذي لا يمتلك صراعات أو تعاليم في رسوماته للأطفال لأنه كان يبحث عما يعتقده جوهرياً. إنما أراد حجازي أن يكرر موتيفات ما مثل السمكة فيجعلكَ تكتشف أمراً ما من أمور كثيرة داخل هذا العالم الذي يرسمه أو شيئاً هاماً يهمك وحدك طالما أنتَ من اكتشفته فهو يخصكَ.في تلك اللحظة تشعر أن هذا العمل الفني ملكٌ لكَ وحدك وهذا ما تفعله السمكة عندما تصطادها، فلقد كانت أعمال حجازي بها الكثير من الأسماك لمن يهوى الصيد والتأمل والجمال. وعندما ننظر لاهتمام حجازي برسم النجوم وقلة اهتمامه بالقمر في رسومه نجد أنه ربما انشغل بها لكثرتها مثل الأسماك التي عشقها وهي تمثل الأحلام و إن كانت تظهر ثابتة في مواقعها إلا أن لمعانها يبهجك ويحركك، فبريقها هو حركتها الخاطفة السريعة المبهرة مثلها مثل الأسماك في المياه مثل الأمطار. يعشق المتحرك الناطق بابتسامة. كل ما يتجاوب مع بهجة حجازي. كانت السمكة حاضرة بكل واقعيتها وطبيعتها المداعبة كاشفة لخصوصية هذا الفنان خصوصية لا إفراط فيها، كانت السمكة بحد ذاتها توازن كامل في عالمه.

دائما تحقق هذا التوازن التام بين الأشكال والمعاني في عالم حجازي المدهش، كأنه شديد الحرص ألا يفقد طريقه، فربما كانت السمكة وأشياء أخرى قليلة دليله. كل هذا يبدو جميلاً في عالمه. لذلك أقول أن السمكة هى الفرصة التي أتت لحجازي أو أن حجازي هو الفرصة التي أُتيحت للسمكة كي تدخل للآخرين العديد من المرات وتتوغل وتلعب بأفكارهم وخيالهم ورحلة بحثهم.

رائع ما تفعله رسومات هذا الفنان الكبير بي، تجعل الأفكار تحوم حولي وتخلق فضاء أسبح فيه لدرجة أني أشعر بتلك الأفكار الكثيرة والمفرحة لها القدرة على تحويلي لسمكة تقفز وتلعب في طيات رسوم حجازي مع سمكاته وإلى الأبد.

هذا الوعى بأحد موتيفات هذا الفنان وصدقها التام يخلق عالما من الجمال يتماس مع تفرده، فمعها تشعر باحتوائك فتدرك كم كان من الطبيعي أن يذهب الإنسان بعيدا.

لقد كان حجازي منحازاً للسمكة ولكن ليس لشكلها وما يميز تكوينها لكنه كان يرسم ما تحب ان تصنع السمكة هنا في لوحته.. كان يفسر الحياة وعلاقة الإنسان بنفسه والعالم والآخرين عن طريق علاقته بالأسماك.. أنا لا أفسر كيف كان يرى حجازي السمكة ؟!  لكني أحاول أن أشعر ببعض الحب الذي كان يخفيه حجازي للسمكة..

قد يرى البعض أن لادخل للحب هنا لكني لا أجد الفنان عظيماً إلا بدافع واحد وهو الحب الذي ربما يُحرك دوافع أخرى أو يتحرك من خلالها حتى لو كان هذا الحب الناتج من لحظة الفعل وصنع العمل والتحليق من حوله. فهل راهن حجازي في رسومه على السمكة ؟؟

عندما أتأمل أسماك حجازي يمتلكني شعور جميل وأهمس لنفسي ها أنا أرى السمكة التي أحبها حجازي وأختارها لتسكن عالمه. لقد كانت هناك لغة إشارية في غاية من الرهافة في رسومه، غالباً يقول على لسان السمكة : هنا سمكة تفعل كذا.. هنا سمكة ماضيها كان كذا .. هذه السمكة حيث أنها ستؤول لكذا.. هذا هو اتجاه تلك السمكات.. وهكذا.. الجمال أنها لغة إشارية ليست بإخبارية لأنها مكتظة بالخيال الغير مسبق والبساطة والبهجة هي تجعلك تسأل لتلعب وتبتهج لا تحتاج لتخبرك عن أى شيء.

فسمكة حجازي ليست سهماً على الطريق يُظهر للطفل والمشاهد الاتجاه لكنها تشبه الفم المبتسم لتظهر أسنانه ممسكة بهذا السهم المشير للاتجاه وشتان بين الاثنين.

إ

نكَ مع أسماكه لا تمل وجودها والطفل قلما لايمل لكنها تحمل من الإمكانات الكبيرة والكثيرة المتأملة و المدهشة. لقد جعل حجازي بينه وبين الطفل والطفل الذي بداخل الكبار أيضا من محبيه شفرة من لغة تخصه بمفرده فقط يفكها من يتابع أعمال حجازي وينتبه ويشعر بشغف هذا العالم البسيط والمركب بآنٍ واحد. حجازي هو من يلتقط اللحظات المدهشة التي تتحقق في خيال الكثيرين تلك اللحظات المستحيلة التي نحيا بها. وأنا لا أختزل أعمال العظيم حجازي في تلك السمكة بتلك القراءة البسيطة لكني أردتُ تقديم هذا الاتساع في تلك المساحة المحدودة  وذلك العمق في تلك النقطة السوداء في آخر ذيل السمكة. فعالم حجازي بسيط متخلصاً من الكماليات عديمة الجدوى لذلك هو عالم يتميز بالتماسك والتوحد والغنى في نفس الوقت. هو يعطيك مهلة للقراءة  ولتذكر تلك السمكة وللسؤال. إن كانت عدسة المصور الفوتوغرافي تخشى لحظة السكون والتخشب التي قد تصيب من يلتقط له الصورة فتظهر تلك اللحظة غالبة على اللحظة التي يبغيها المصور في الصورة لكن حجازي يمتلك تلك اللحظة لأن عدسته تصور ما يجول في خياله بقوة وصدق فأنا أحب أن أطلق عليه بجانب أنه فنان الكاريكاتير( فنان الشعب) اسم فنان فوتوغرافيا الخيال المضحك. لقد اهتم حجازي أيضاً بشكل مدهش بالعالم المحيط بالسمكة وهو المياه حيث كانت أمطار حجازي لا ترغب في التوقف فمن المياه المندفعة من خرطوم مطافي أو من حوت يسبح في الماء أو خرطوم الفيل أو من إناء لسقي النباتات أو لهطول الماء من السماء أو من صنبور الاستحمام إلي مياه حمام السباحة أو مياه حوض الاستحمام.. وغيرها . وكيف كان يعبر ويشعر بتغيرات اتجاه المياه وعلاقتها البديعة التبادلية المبهجة حتى أنه يجعل الماء يحيط بك من كل جانب.. إنها صورة الحياة الأولى ..ألا تشعر أنك سمكة ؟!

عندما أرى رسوم حجازي أعرف أنني كنتُ في احتياج لأن يحدث شيء كهذا في حياتي إنه مثل الحوادث الصغيرة التي لا تفارقك ولا يعلم عنها غيركَ كأشياء يومية لكنها تحفر بعمق وقوة. إنه يفكر بالرسم ويلون بالخيال والبسمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبير عبد العزيز

شاعرة وكاتبة أطفال – مصر

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم