حين أتحدث عن هانى عبد المريد فشهادتى مجروحة ذلك لأنني حينها أتحدث عن نفسي، فهانى عبد المريد بمثابة ابني إذا صحت المقولة بأن ( الخال والد)، وإعجابي بهاني نوع من النرجسية فبه قد حققت بعض طموحاتي، ذلك لأنه نتاج عمرنا معا حيث شاركنى وشاركته أزهى فترات العمر وأشدها خصوبة فكرية وروحية رغم حداثة سنه آنذاك إلا أنه كان يتذوق الأدب شعرا ونثرا بطريقة أدهشتني .
كان هاني شغوفا بفن الحكي سواء الحكايات الشفهية التي كنا نتداولها عن قريتنا في الصعيد وحكايا الجن والعفاريت وحكايا الجدة الفلكلورية أو ما كنا نقرأه من قصص وروايات لكبار الكتاب حيث كنا نشتري الكتب يوميا من سور الأزبكية وكثيرا ما ننزل سوق الخميس بمنطقة المطرية حيث كنا ننقب عن الكتب ونرجع اسبوعيا محملين بالكثير من الكنوز، فغالبا ما كنا نحصل على كتاب قديم عليه توقيع مؤلفه والذي كان أهداه لشخص ما ودارت عليه الأيام ليصبح ملقى على الأرض فى سوق الخميس، ولم نكن نكتفي بشراء الكتب بل كنا نشتري كل ما هو اثري فى نظرنا سواء كتب أو مجلات قديمة أو جرائد مرت عليها عقود أو لوحات فنية أو طوابع بريدية أو أسطوانات موسيقية لام كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم وحتى الأجنبية منها والأوبرات العالمية والموسيقات الشعبية حتى أننا اشترينا ذات يوم اسطوانات عليها موسيقى كورية وأخرى عليها خطب عيدي أمين حتى امتلأت الحجرة بالكتب المكدسة في كل مكان سواء فى الدولاب أو فوق الدولاب أو تحت السرير أو على الأرض .
كنا نرجع بكنوزنا من سوق الخميس فنرصها على السرير ونبدأ فى تنظيفها وترتيبها وفي ذلك لذة لا تعادلها لذة، ثم نبدأ بعد تناول الطعام وشرب الشاي فى فرز الكتب وتفاخر كل منا بما حصل عليه من كتب وروايات، ثم نبدأ فورا فى القراءة فنظل طوال الليل صامتين في يد كل منا كتاب يطالعه فتمضي بنا الساعات حتى يتسلل إلينا ضوء الفجر .
كانت متعة القراءة بالنسبة لنا شيئا سحريا حيث تبلغ الحواس ذروة النشوة القرائية استمتاعا بالكتاب ولمس الورق وشم رائحة الكتب والانصات إلى حفيف الأوراق وهي تقلب في سكون الليل.
كنت وأحمد (الأخ التالي لهانى عبد المريد) نقرأ روايات نجيب محفوظ ويوسف ادريس واحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله وألف ليلة وليلة، وكان هاني يهتم أكثر بأعمال توفيق الحكيم وكل ما يخصه من أخبار وحوارات حتى انه جعل أخاه احمد وكان فنانا يهتم بالرسم – جعله يرسم صورة بالفحم للكاتب توفيق الحكيم ليعلقها هاني على الحائط فوق مكتبه وكان يفرد لتوفيق الحكيم دفترا خاصا يدون فيه ملاحظاته والعبارات التي أعجبته ، كان هاني فى الصف الثاني الإعدادي حينذاك.
فاجأنى هانى يوما ما وكان في بداية المرحلة الثانوية بمقال قد كتبه بعنوان ( إعدام الشماعات) ضحكنا كثيرا على المجاز فى العنوان ولكنه كان يتحدث عن تعليق أخطائنا على شماعات متعددة واهية، ثم توالت مقالاته فيما بعد حيث التحق بجريدة ما كان يكتب لها تحقيقا صحفيا طويلا موثقا بالصور واستمر فى ذلك فترة ليست بالقصيرة إلى أن وجد نفسه في القصة القصيرة وبدأت مرحلة جديدة في حياته حيث تنقل من نجاح إلى نجاح وتوالت مجموعاته القصصية ورواياته والتى حازت على جوائز عديدة .
كان اهتمام هاني عبد المريد باللغة الشعرية اهتماما واضحا منذ نعومة أظفاره فكان يطرب وهو فى سن مبكرة لأشعار صلاح عبد الصبور وأمل دنقل إلى جانب المتنبي وشوقي وإبراهيم ناجي ، وكنت أقرأ عليه قصائدي كلها وكان يصر على أن يحتفظ بنسخة خاصة من أشعاري، وكان يلح عليّ أن أنشر قصائدي فى المجلات الأدبية ولما رآني عزوفا عن النشر فى تلك الفترة أخذ ينشر قصائدي دون علمي ويفاجئني بجريدة فيها قصيدة من قصائدي .
ومن صميم عشقه للشعر واللغة الشفافة كتب هانى فى صدر مجموعته القصصية (شجرة جافة للصلب ) هذه الأبيات للشاعر محمد الماغوط :
كنت أود أن أكتب شيئا
عن الاستعمار والتسكع
عن بلادى التي تسير كالريح نحو الوراء
ومن عيونها الزرق
تتساقط الذكريات والثياب المهلهلة
وفى مجموعته القصصية ( إغماءة داخل تابوت ) أهدى هاني عبد المريد إحدى قصصه ( حكاية متكررة وسخيفة) إلى روح الشاعر صلاح عبد الصبور، وكانت الرؤية النقدية عن المجموعة ذاتها للشاعر الدكتور حسن فتح الباب، وصدر هانى احدى قصص المجموعة (حكاية العازف الأعمى ) بهذه الكلمات :
صمت الجمادات من حولى يجعلنى أبوح
وصمت الله يقتلنى
فهل تتكشف لى الرؤية يوما ما
أم ساظل وحيدا أبحث فى الظلمات؟
(العازف الأعمى)
وفى قصته القصيرة (عوسج) فى نفس المجموعة يعبر هاني عن دهشته وإعجابه بكلمة (عوسج) ورغبته أن يستخدمها فى قصة من قصصه يقول :
عندما قررت الكتابة لجأت إلى المعجم.. وجدت إن العوسج جنس نبات شائك فازددت عشقا له.. العشق هنا للكلمة الغريبة الشاعرية وليس للنبات الشائك فيقول: (فقط أستلذ بنطق كلمة عوسج وبرنينها الموسيقي في أذني.)
وفى مقدمة روايته (أنا العالم ) صدر هاني الرواية بهذة الكلمات للشاعر محمد أبو زيد:
(لم أعد أذكر متى استيقظت
وحيدا مثل كلب ضال
ببنطلون واحد ممزق
وحقيبة كتف متسخة تخزن ذكرياتي
وسحابة بوجه مومياء تظللني.)
إن المتتبع لأعمال هاني عبد المريد يجد الكثير من هذه الإشارات التي تدل على عشقه للغة الشاعرة .
أصبح هاني عبد المريد كاتبا معروفا له اتجاه واضح في الكتابة وأعماله الروائية تعالج قضايا حياتية هامة ولها مذاق خاص فريد يتميز به وحده , فهو بصدق كاتب صاحب قضية , لم يجر وراء الشهرة والمكسب السريع بقدر ما اهتم بالإبداع الأدبى والفن الذي يبقى على مر العصور , وكانت قمة تجلياته فى روايته الأخيرة المشحونة بالرمز والخيال الخصب ( أنا العالم ) الصادرة عن الكتب خان فى العام المنصرم، والتي كتبت عنها الكثير من المقالات فى الصحف والمجلات .
وفى مجموعته القصصية (شجرة جافة للصلب) كتب هاني :
(الخال … سيد التوني
سأظل أحمل لك امتنان تفتح لحظات الدهشة الأولى على يديك).. وكانت هذه الكلمات تكفينى.
…………………..
*شاعر مصري