عبد السلام مسعودي
في البدء لم تكن الحكمة تحكّما، كانت ملاذ المهمشين والهامشيين، كانت صرخة العقل في وجه الطبيعة والمتطبعين مع قوّتها، كانت انتصارا للكائن على نفسه، انطلق الزمن في صيرورة التملّك والامتلاك حتى عدّل الإنسان حضوره داخل محيط النبوءة، فأصبحت الحكمة تحكّما وإحكاما في ترويض الآخر، في بسط سلطة لا سلطان للغيب فيها.
الكتابة تحوّلت في العمق، نشازا يقوّض بدايات الحكمة ويرسلها إلى أرض جرداء جاهزة لمتاهة أبدية يستوطن فيها الغريب ويُنفى إليها القريب، الكتابة نسق فسيفسائي لجمع الأفكار المنسية والمنفلتة من القدر، تجمّعت، تفرّدت، كتبت روحها في الأثر البديل مُدوّنة قدوم زائر الجديد.
حين الحِين صدح العقل:
– من الحكمة أن نتحكّم، ومن الجُنون أن نكتب
– أن تكتب، هو أن تدنّس حُكمك
– في الحُكم تترك حكمتك خارج الكتابة، داخل الكآبة
من أوّل المتن لم تكن الحكمة تسكن أسوار الحروف، كانت فصلا يفصل حدوده عن الواقع، كانت امتدادا لوطن تعبره الأفكار المنطلقة بلا جوازات عبور
في التفاصيل، لا يغيب النسق ولكنّه يجاهد نفسه على التخفّي، على رسم كائن عابر للحدود، لكن الواقع توقّع لما تخطّه يد الإنسان، لما تُدونّه الحكمة الخالدة:
الجروح التي ينزف دمها ترسلك إلى الطبيب
الجروح التي تذرف دموعها ترسلك إلى الحكيم
فالكتابة نسق متنوع ومتجدّد، الكتابة نزيف حبري قاتل للحكاية والمحكيات، الكتابة خيانة لرسالة الكائن في هذا الوجود، تزييف مقنّع للحقيقة وحقائقها، فأن تكتب هو أن تُزيّف، أن تجعل الحقيقة واحدة متوحّدة، مستوحشة، مُوحشة، مُتوحّشة، أن تكتب هو أن تكون حَاكِما مُتحكّما لا تَحْكمك حِكمة الحَقيقة بل تَحكِمك حِكمة الحُكم.
في الحكم ما يكتبه معظم الخلق، تخلّق زائد عن القيمة ورغبة زاهدة في الحقيقة، فما تنتجه الطبيعة تنسفه الغريزة وتُطوّعه السّلطة، وما تخطه أيادي الإنسان هو توغّل في رسم الرّغبات والأحاسيس التي تقوض الاعتقاد بأننا على مشارف الإمساك بالحِكمة، فنحن فقط نمسك بالظلال حين نبتعد عن أعالي الأشجار.
الحبر أكسير الكتابة والتحبير مرجع حبري يعصف بحياة الكاتب، فمن يستوطن مدونته الحبرية فهو ينزف روحا وإبداعا ويودّع ملحمته الوجودية، فالحروف، الكلمات والأشياء بذاتها وذواتها تعيش في متاهات الأوراق والأشجار، فقط الأحلام من تحتل ذاكرتنا وتذكرنا بأن الجرح الجارح قد سلك طريق العزف والنسف، قد أرهق القمر عند إلتحافه بالسماء وأسقط الصمت من جمهورية الحرائق الحارقة.
الكتابة تكليف من العقل للولوج إلى عالم النقل وهي انتقال من عالم معقول إلى عالم منقول ترسمه ألواح كائن التفاصيل الذي أطلق رصاصته الأخيرة من أجل نفي الحقيقة من عالم الإمكان والممكن، فالكتابة كائن رسم والحكمة كائن حسم.
فنحن لا نسير في هذه الحياة لنحيا حياة حبرية ولا لتنزف عروقنا في ميادين الدم الأزرق بل إنّنا قادمون من أرض الجروح الجارحة نبحث عن حكمة تائهة عند حدود خسوف الحرف وانعكاس الضوء عند ظلمات العقل، إننا هنا ومن هناك جئنا لنحيا حياة غريبة بغربة أرض فقدت روح الأنبياء، وبعطش يبحث عن قصيدة مشتهاة بطعم تفاحة آدم، إنّنا رواية لا تروى حكايتها عند باب السلطان ولا تسفك دمائها عند تخوم المقابر البصرية، إنّنا فقط قدر محتوم وجنون لا تجنّ به الأنفس الصّاعدة إلى المجهول