في القاهرة التي يصادق الغريب منا مبانيها أولاً، كالعميان لما يشحذون الطمأنينة من الحيطان، أسمع اسمها مخلوطاً بالحكايات الحية، والمقاطع الشعرية، وعناوين دواوين طويلة كالتي كان عليها الأمر في التسعينيات؛”ممر معتم يصلح لتعلم الرقص”، “المشي أطول وقت ممكن”؟!، وصولاً لـ”جغرافيا بديلة”. بتجريدٍ بسيطٍ أراهم مرايا مدرّجة لاغترابٍ يصل حد التصوف، لكن بتقشف محسوبٍ في الغنائية، وشاعريةٍ تفيض.
وعلى الفيسبوك نصبح أصدقاء افتراضيين، دون أن تعرف إيمان أن لها نفس ملامح نجمة الأبيض والأسود التي طالما أجريت عليها أوامر القص واللصق، لتشبه روحي عندما فقدت عشرات الأرطال من الملح والشحم، وطيرتها القصائد.
وفي أمسية تكتظ بالأصدقاء وبصحبة ابنها “مراد”، تقرأ هي من دواوينها الثلاثة، وأردد قصائد اكتشفت أنني أحفظها، وتدوس كلتانا على زر التسجيل في وسط الذاكرة.
قرب الخمس سنوات تمر عل هذا اللقاء وأنا أتحاشى الكتابة عن إيمان مرسال، خشية التورط في الغنائية، ليجيء ديوانها الأخير “حتى أتخلى عن فكرة البيوت”، مسرباً شاعريته منذ العنوان والغلاف، والعناوين الجانبية. وتفلح إيمان في إيهامك أنها قد أهدتك كتابةً بلا حيل، وأنها استحلبت قريتها وأصدقائها، ووجوهاً كانت قريبةً جداً قبل أن تموت في البراويز، وتفاصيل لم تكن تعرف أنها التصقت هكذا بقعر الذاكرة، لترتب ما أسمته في ديوانها “لعنة الكائنات الصغيرة”، دون أن تمارس “رزيلة” النوستالجيا.
لا أعرف ما إذا كان الديوان بديلاً عن “الأعمال الكاملة” أو استدعاء للدواوين الأربعة السابقة، حيث لعبة الإحالة، وتبادل الإجمال والتفصيل بين القصائد والمقاطع قائمة على الدوام بين هذه الدواوين والديوان الأخير.لكن الأكيد ــ وهذي كلمة تفقد ثلثي صرامتها عندما يتعلق الأمر بالفن ــ أنها برهة توقفٍ، قالت إيمان إنه كان لا بد أن يمر كل هذا الوقت كي تحدث ــ عند متعلقات ماضوية لم تقدر عليها القصائد. حياة كاملةخربها آخرون عبر تبادل الحضور والغياب، استعادتها الشاعرة في مشهد إفاقةٍ ينتمي للقرون الوسطى:” تلكالحياةالتيحَشرَفيهاأكثرمنأبطموحه/أكثرمنأمّمقصاتها/ أكثرمنطبيبمهدئاته/أكثرمنمناضلسيفه/أكثرمنمؤسسةغباوتها/أكثرمنمدرسةشعريةتصوّرهاعنالشعر(…) تفتح عينيها بعد غيبوبةٍ طويلة/ كأميرةٍ تعرف أن قصر أبيها محميٌ من اللصوص”.
“وفاتتني أشياء”
هذا العنوان الجانبي لأحد ثلاثة أقسام، ضمها الديوان الجديد “حتى أتخلى عن فكرة البيوت”، كان عنوان إحدى قصائد ديوان “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص”. وبينما صلةٌ باهتةٌ ومهترئة تجمع الذات الشاعرة بالبيت، في الديوان السابق، حتى لتحاول التأكيد على أن: “هذا البيت، كان لسنواتٍ بيتي/ لم يكن معسكراً طلابياً”، تستطرد الشاعرة في الديوان الجديد، عبر زاوية كاميرا مضبوطة على ماضي هذا البيت، وساكنيه، ومن مروا على عتبته، أو جمدتهم فوتوغرافيا لم تكن هي مصدرها، في المعايشة بأثرٍ رجعي، وبتورطٍ أكثر في التفاصيل والملامح، وتعاطف يصل إلى حد “تضييق شروخ الصورة بالفوتوشوب”، ودون تجاهلٍ للخيبة التي تسوقها الشاعرة في نهاية هذه القصيدة الطويلة: “ما أذكره غائبٌ عن الصورة فلماذا أجتهد هكذا لأحافظ عليها من الضياع”.
في القسم الثاني يحل الوهم بديلاً للذكرى، أو يجتمعان عبر نوستالجيا افتراضية أسمتها الشاعرة “ونصنع وهماً ونتقنه”، يُستدعى خلالها الروائي الشاب الذي لم يعد حياً من “تجربة الغرب”. وكانت الشاعرة ثبتت لحظة وداعهما في ديوانها السابق “جغرافيا بديلة”، بينما ظلت تطارد صوته، لأنها “لم أراهن أبداًعلى الروح/ ولست في حربٍ مع الفناء/ أين يذهب الصوت؟”.
في مفتتح هذ القسم حيث “يستلم الواحد جائزة العودة سالماً من النوم”، تؤكد الشاعرة على افتراضية قصائده، ما سيكسبها رقة الانفلات من الكوابيس، وأغلبها تنويعات على اتصالٍ بحبيب تعرف الذات الشاعرة، وتخبرنا، أنه ميت، لكن إيمانها بتقاطع طريقي التيه والموت يجعلها تؤكد”أننا رغم الجغرافيا والمصائر هنا ومعاً”.
أما القسم الثالث “الحياة في شوارعها الجانبية” فيحتشد بقدر من الواقعية، تشير إليها الإفاقة في قصيدة “حياة” على لحظة الوصول لسن الأربعين، وشيء من رائحة الثورة والسياسة والميادين، والمشاهد اليومية المحملة عاديتها بتأويلات وجوديةٍ جداً كاكتشاف جثة طائر، لم ينتبه إلى غيابه السرب، والسير في جنازةِ، “كان يجب أن تكون مهيبةً/ لولا هذا الحذاء الرياضي”، غير أن الحلم يعاود المراوحة كما في قصائد: “مثل القصيدة التي أكتبها في الحلم، و”كتاب الرغبة”،و حلم اليقظة في قصيدة “تجارة العبيد”.
وفيه ستطفو النوستالجيا صلبة و مشدودةً بين زمانين وبين ديواني إيمان: “المشي أطول وقت ممكن” حيث:” عندماقررتُأنأتركهمجميعاً/أنأمشيوحدي/كنتقدبلغتالثلاثين”. وديوان “البيوت” حيث: ” استيقظتُ في أرضٍ غريبةٍ ذلك الصباح الذي بلغتُ فيه الأربعين” لكن برصيد خساراتٍ رصدته الشاعرة في مقطع يصلح ديواناً كاملاً:
“أمامي طابور من الموتى الذين ماتوا ربما لأنني أحببتهم/
بيوت للأرق داومت على تنظيفها بإخلاص في أيام العطلات/
هدايا لم أفتحها لحظة وصولها/
قصائد سُرقت مني سطراً سطراً
حتى أنني أشك في انتمائها لي،
رجال لم أقابلهم إلا في الوقت الخطأ/
ومصحات لا أتذكر منها إلا الحديد على الشبابيك/
أمامي حياتي كلها؛
حتى أنه يمكنني ضمها إذا شئتُ/
يمكنني حتى الجلوس على ركبتيها والغناء أو العويل”.
ما يمكن قوله أيضاَعن هذا الديوان، أنه استحلاب لأقصى جرعات الشاعرية المتاحة في السرد، واكتشاف لها في آن، عبر تكنيكٍ كأنه استسلام للحكي، أو البوح، وتحرير اللغة من كافة قيود ممارسة الكتابة، والانسحاب من أى مراهنات على الوصفات المستعملة لإخراج القصيدة، بما فيها قصيدة إيمان مرسال قبل هذا الديوان، غير أن رهاناً قديماً يتجدد على شاعرية إيمان مرسال التي تصل إلى حد الريادة، بعد تنظيف هذه الكلمة من سابق سمعته السيئة.