سوسن الشريف
اختلطت نظرات سارة بأشعة الشمس، التي تذوب في مياه البحر شيئًا فشيئًا، لم تدر كم من الوقت مر عليها وهى شاردة الذهن، تقف في الشرفة تنظر إليه، فلم تعد تجرؤ على السير على الشاطئ، لم تعد تحتمل ملمس الرمال الناعمة على بشرتها، ولا رذاذ المياه يسبح فوق وجهها. إلا أنها كل يوم تتحدث إلى البحر حديث لا ينتهي، كما اعتادت أن تفعل دائما منذ طفولتها إلى أن تفتحت زهرة صباها على شاطئه وحينها لم تكن بمفردها بل في صحبة نصفها الآخر.
لاح شبح ابتسامة على شفتيها عندما تذكرته، وإن كانت لم تنسه يومًا لتتذكره …
ضغط أحمد على يد سارة بقوة كاد يسحق عظامها وهو يجذبها بشدة، فقالت متألمة “أي حق هذا الذي أعطيته لنفسك، ومنذ متى أصبحت جاريتك التي عليها طاعتك؟”، نظر في عينيها، تبدلت نظراته من التحدي إلى الرقة والدعابة، قال:” منذ أول يوم رايتك فيه، منذ داعب صوتك الرقيق أذني، منذ حفرت اسمك بداخل قلبي”.
ألقت سارة بحقيبتها على الرمال في غضب، نظر إليها أحمد ضاحكًا، وسألها إذا كانت ستذهب للسباحة معه، فرفضت وجلست تتظاهر بالنظر أمامها، بينما كانت تنظر إليه من خلف نظارتها الداكنة، تراقبه وهو يسير باتجاه أصدقائه، تدخله إلى أعماقها بالرغم من كونه بداخلها بالفعل. كم تحبه وكم يحبها، تعالت ضحكاته من بعيد ليملأ عليها المكان، ها هو يقف مع أصدقائه، تلتمع بشرته السمراء تحت ضوء الشمس، تتطاير خصلات شعره الأسود فوق جبينه، تتمايل مع نسمات الرياح. كلما سمعت صوته تبتسم من فرط السعادة، و ينتشي قلبها فرحًا، من حين لآخر يرسل إليها ابتسامة ساحرة تضفي عليه مزيد من الجاذبية.
ذهبت ببصرها معه وهو يخطو برشاقة إلى البحر ليصير جزء منه، اتجهت هي الأخرى إلي البحر ببصرها تتحدث إليه، إنه رفيقها الدائم يحبها كما تحبه، يشاركها دمعها، فرحها. كلما كانت تبكى تختلط دموعها بأمواجه فتثور حزنًا عليها، وعندما تضحك تذهب إليه يحتضنها في حنان بين رماله ومياهه، لا يكل أبدًا من شكواها وهمسها إليه، فتدور بينهما أحاديث لا نهاية لها. لم تعد تدرى هل تعبت من البحر، أم تعب منها!! فلا حديث إلا عن أحمد، الذي له نفس صفاته، كلاهما يحمل نفس الغموض والسحر، عندما تريد الفرار منه تذهب إلى البحر، ولكن سرعان ما تكتشف أنها هربت منه إليه.
تحمل الرياح إليها قطرات المياه، تنثرها على وجهها، على شعرها تجد بهما رائحة أحمد، ترى ثورته في ثورة الأمواج، تسمع صوته في هديل المياه، تسبر أغوار البحر، كأنها تغرق في عينيه، أحيانًا تخاف أحمد بشدة كخوفها الإبحار في ليلة خالية من القمر، أحيانًا أخرى ترتمي في أحضانه ليحميها من أي شيء ومن كل شيء، تظل هائمة بين طيات أمواجه، لتحملها إلي بحر بلا شاطئ ترسو إليه.
تذكرت لقاءهما الأول . . .
اعتادت الجلوس بمفردها على الشاطئ، لاحظت أن أحمد يجلس معها في نفس الموعد، يظل ينظر إليها، تكررت اللقاءات إلى أن صارت مواعيد غير مُعلنة، لم تستطع منع قلبها من سعادته العارمة بهذه الصدف المقصودة. ذات يوم، توجه إليها، جلس بجانبها، فلاحت عليها علامات الارتباك، وهمت بالانصراف، يده كانت أسرع منها فامتدت لتمسك بذراعها برفق، نظر في عينيها وهو يسبح فيهما، سألها:
- إلى أين؟
- إلى منزلي.
- لماذا ستذهبين مبكرًا اليوم؟ هل أزعجك لهذا الحد؟
أعلم أنك لا تغادرين إلا مع أول ظهور للقمر، كأشعة الشمس التي لا تجتمع مع القمر، كالنهار الذي يغشى على ثوبه الأبيض من ظلمة الليل.
ارتبكت، تلعثمت، تاهت الكلمات من بين شفتيها، سارت معه كطفلة لا تعرف طريقها بدونه، جلسا معا على الرمال، يحتفظ بيدها بين يديه، حتى حل القمر محل الشمس، و تلألأت النجوم في عينيها فارتسمت على وجهه ابتسامة، فقال لها: “أعطاك القمر سحرًا جديدًا، وانطلقت النجوم من عينيك، إنكِ النهار الذي يخبئ الليل بداخله”.
نثر البحر بعضًا من قطرات مياهه على وجهها، أعادتها صوت الأمواج من خضم ذكرياتها، كأن البحر يأبى أن تبتعد عنه ولو بخيالها، يأبى أن يشاركه أحدًا فيها. رأت سمكة تقفز من مكان لآخر، تلاها سرب من الأسماك يتشاجرون على كائنًا صغيرًا، تساءلت كم من الأرواح تختفي داخل أحضان البحر!!
ظنت أنها تسمع أصوات، همسات، أحيانًا نداءات، هل للبحر صوت؟ هل للأمواج همس؟ هل احتواها البحر إلى هذا الحد؟ لقد سلبها لبها وذهب بعقلها حتى صارت تتحدث إلى الكائنات الساكنة به، تسمع صوت الأرواح الهائمة بداخله.
ثمة ضجيج على الشاطئ، صيحات آخذت تعلو، وتعلو، نظرت نحوها، رأت أشخاصًا تعرفهم، تنطلق منهم أصوات بكاء، فشعرت بانقباض، أسرعت الخطى لتجدهم يلتفون حول شخص غريق. اقتربت أكثر لتجد أحمد ممدًا على الرمال مغمض العينين، لا يحرك ساكنًا…
عادت إلى وعيها تناديه، تنتظر أن يجيبها، تتوسل إلى العيون الملتفة حولها بقلق ليأتوا إليها بأحمد، ذابت روحه مع الأرواح والكائنات التي تحدثت إليها منذ لحظات، أكان يودعها، أكان يلهيها بمراقبة الأسماك لكي لا تشعر بسكرات موته!!
ها هو البحر استرد نصفه الآخر …
آبى أن يشاركه أحدًا فيها، وآبى أن يشاركه أحدٌ في نصفه الآخر